كيف أتوب ؟
بواسطة
, 7th February 2012 عند 09:20 PM (2006 المشاهدات)
كيف أتوب ؟
الحمد لله ربِّ العالمين،أشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وعلى آله وصَحْبه ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
كيف أتوب؟سؤال يبحث عن إجابته كلُّ عاصٍ ضلَّ طريقَه، واتَّبع شيطانه ونفسه الأمَّارة بالسوء.
ورغم سهولةالإجابة، فإن من المستحيل طَرْحَها دون بيان حجج مَن ضلَّ طريقه، ويبحث عنتبرير لِمَا ارتكبه ويرتكبه من معاصٍ وذنوب لا يعلمها إلا الله - تعالى - وإليك أخي القارئ بعضًا من التبريرات أو الحجج الجوفاء، مع بيان زَيفهاوضَحالتها قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال، وسوف ألتزمُ في الردِّعليها الْحِياد التامَّ في طَرْح الحجج من كلِّ جوانبها وعلاجهابموضوعيَّة، واضعًا نُصب عيني أنَّ الخير كل الخير في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يجادل فيه إلا مُكابر حَاقِد على الإسلام،وإنْ قال غير ذلك.
حجج وشبهات أهل المعاصي:
الحجة الأولى:
يقول البعضأُريد أن أتوبَ ولكنَّ الناس لا ترحم، ولا يسامح بعضُهم بعضًا، وطَغَتِالمصالح الشخصيَّة والأطماع الخاصة على القِيَم والمبادئ وحُب الخيروالتكافُل بين الناس، ومَن لَم يتعامل مع الناس بشدَّة وغِلْظة وسوء ظَنٍّ،فلا ناقة له ولا جَمل، وسوف يضيع حقّه، ومعاملة الناس بالحبِّ وحُسنالظنِّ بهم، وقَبول مَعذرتهم، كلها عوامل ضَعف في الشخصيَّة، ومثل هذاالإنسان سوف يَفترسُه الناس ويطمعون فيه، ويتعرَّض لسُخْريتهم وتَهكُّمهم،فكيف أتوب بعد ذلك؟!
ومَن الذي يحميني منهم إن لم أكنْ مثلهم؛ غَليظ القلب وسَيئ الظنِّ بهم، ثم ليس منا مَن هو في إيمان أبي بكر الصديق،أو قوَّة وشدَّة الفاروق عمر بن الخطاب في الحقِّ،أو وَرَع وحَياء عثمان بن عفان،ولا فِقه وذكاء عَلِي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين - والرسول ليسمعنا كما كان مع الصحابة يرشدهم إلى الخير، ويحرِّضهم على التنافُس فيه.
إننا باختصارومجمل القول: أصبحْنا كالسمك الكبير يأكل الصغير، والغني يذلُّ الفقير،والقوي يُرهِب الضعيف، أصبحْنا نعيش للدنيا ونموت من أجْلها!! ومِن ثَمَّلا بد كي أعيشَ أنْ أفكِّرَ بنفس الطريقة التي يفكر بها الناس، وأعاملهمكما يعاملونني؛ بلا شفقة أو رحمة، وإلا كنتُ تابعًا لهم، ذليلَ إرادتهموحِقدهم ...إلخ.
فكيف أتوب بعد ذلك؟!
الرد على الحجة الأولى:
بدهي أنَّالناس لن تتَّفِقَ أهواؤهم، كما أنَّ التسامح والمحبَّة وإنكار الذات منأجْلهم لن يَصِلَ أبدًا للحالة التي كان عليها الصحابة والتابعين وتابعوالتابعين، وهم خيرُ قرون الإسلام على الإطلاق، بدليل حديث عِمران بن حصينقال:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُكم قَرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذينيلونهم))، قال عمران: لا أدري ذَكر ثِنتين أو ثلاثًا بعد قَرْنه، ((ثميَجيء قومٌ يَنذِرون ولا يَفُون، ويخونون ولا يُؤْتَمنون، ويشهدون ولايستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن))؛ أخرجه البخاري في الإيمان،6201.
ومِن ثَمَّ،نستطيع القول - بكلِّ يقينٍ وحِياد -: إنه ليس منَّا، ولن يكون مَن هو كأبيبكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - الذي قال في حقِّه النبي - صلى اللهعليه وسلم -: ((لو كنتُ مُتَّخِذًا من أهل الأرض خليلاً، لاتخذتُابن أبي قُحافة خليلاً، ولكنْ صاحبُكم خليلُ الله))؛ مسلم في الفضائل، 4394.
وليس منَّا،ولن يكون مَن هو مثل الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - الذي قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حَقِّه: ((والذي نفسي بيده، ما لَقِيَك الشيطان قطُّ سالكًا فَجًّا، إلا سلَك فجًّا غير فَجِّك))؛ أخرجه مسلم في الفضائل، 4410.
وليس منَّا،ولن يكون مَن هو كعثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - الذي قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - في حقِّه: ((ألا أستحيي من رجلٍ تستحيي منه الملائكة))؛ أخرجه مسلم في الفضائل، 4414.
وليس منَّا،ولن يكون مَن هو كعَلِيِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - الذي قالالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حَقِّه: ((أنت منِّي بمنزلة هارون منموسى، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي))؛ أخرجه مسلم في الفضائل، 4418.
وليس منَّا،ولن يكون رجلٌ أمين كأبي عبيدة بن الجراح، ولا شجاعٌ كسيف الله خالد بن الوليد، وغيرهما من الرعيل الأول من صحابة النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - والتابعين مِن بعدهم، وتابعي التابعين الذين قال الله - تعالى - فيهم: ﴿وَالسَّابِقُونَالْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَاتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُوَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَفِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].
ومِن ثَمَّ،فَلْنَرْضَ بما نحن عليه في زماننا هذا دون تفريطٍ في حقِّ الله علينا، ولنكيِّف حياتنا على الكتاب والسُّنة لا العكس.
نعم أقول بكلِّ ما في قلبي من حَسرة وأَلَمٍ، مُقرًّا ببعض هذه الحجج والتبريرات، وليس كلها:
إن الواقع الذي نعيشه يشهد بأن في كلام مَن يقول بذلك بعض الحقِّ،فقد تشتَّتتِ الأُمة وضاعتْ سِمتُها وشخصيَّتها، وصَار الدين مُجرَّدَشعائروطقوس، وأصبحت المبادئ تُباع وتُشترى لِمن يدفع أكثر، فلا انتماءلمبدأ ولا انتصار لحقٍّ، وإنما المال سيِّد الموقف، وقد مال بالناس عنالحقِّ والصواب، إلاَّ مَن عَصَمه ربُّ العِباد - سبحانه.
هذا على الجانب العام، أمَّا الجانب الشخصي، فحَدِّثْ ولا حَرَج،لقد صار المرءُ منَّا يتمنَّى لو كان أخوه لُقمة ليأكلَها هو، يقول: أناوأنا والطوفان مِن بَعدي، واتَّخذ الشيطان حبيبًا وصديقًا، وولِيًّا مِندون الله - تعالى - وقد تَملَّكَنا حُبُّ الدنيا واتِّباع الهوى، وطَغَىعلى تصرُّفات الكثير منَّا حُبُّ الذَّات والنرجسيَّة، والأنانية الخبيثة،وأصبحت المصلحة الشخصيَّة لها الأولويَّة، حتى لو كانتْ تضرُّ بمصلحةالجماعة، فلا اعتبار لهذا، ومِن ثَمَّ اختلط الحابل بالنابل، وصار المرءُلا يدري أين الحقُّ، وأين الباطل؛ من كثرة التلبيس والتدليس!!
ولكن رغم كل ذلك،هل فات الأوان؟
الجواب قطعًا: لا؛ فلا يأْس من رحمة الله، ولا بد للشرِّ من نهاية، ولا بد من طلوع الفجر بعد ظُلمة الليل،والحلال بيِّن والحرام بَيِّن، والحق أحقُّ أن يُتَّبَعَ، وهنا مربط الفَرَس كما يقولون؛ قال - تعالى -:
﴿فَأَمَّاالزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُفِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ*لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْيَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًاوَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِوَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [الرعد: 17 - 18].
ومِن ثَمَّفلا مَندوحَة من بيان الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والخير من الشر؛حتى لا يلتبسَ الأمرُ علينا، ونكتشفَ أين نَضَعُ أقدامَنا، فإن للطريقمَزالِقَ خَطِرة، والشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء بالمرصاد لكلِّ جُهْديُراد به تغييرُ النفس وتحصينها مما تحبُّ من شهوات الدنيا الْمُهْلِكة.
فلا غَرْوإذًا أن نتجاهلَ ونَصُدَّ وسوسة الشيطان، وحديث النفس إن خَالَفْنا أمرالله - تعالى - ورسوله، وعلاج هذه الحجة في الإيمان والإيمان فقط، وأقصدبالإيمان: الإيمان بالله، وأنه لا نافعَ ولا ضارَّ إلا هو - سبحانه وتعالى.
وهذا دواءٌفعَّال، فلو آمَن وأيْقَنَ الإنسان بأنَّ غيرَه من المخلوقات لا يَملكونلأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا.
أكرر قولي؛لينتبِهَ صاحب الحجة: إن يقينَ الإنسان بأنَّ أمرَه في يد خالقه ورازقهليدفعه قُدمًا إلى التمسُّك بتعاليم الكتاب والسُّنة، ولا يضرُّه اعتراضأهْل الأهواء والْجِدال العقيم، والفكر الريكاردي، الذي شعارُه: أنا أفكرإذًا أنا موجود!!
ولَيْتَشِعري، كيف يجد الإنسان نفسه وهو خائف على رزقه وعمله، وعياله وحَشمه، ولايخاف من أن يُسْلَب الإيمان، وتنقطع الصلة الروحيَّة بينه وبين الله - تعالى؟! ما الذي ينفع المرء إن أراد الناس جميعًا تدميره، وإغراقه فيهُوَّةٍ ما لَها مِن قرارٍ بحجج واهية؛ لقَتْل عزيمته، وتَسْفيه فِكْره،ووَهْنِ إرادته قبل التمرُّد على مبادئهم وأصنام الشهوات التي وَقعواأمامها هَلْكَى وصَرعى، فضلوا ضلالاً بعيدًا، ويظنون أنهم يُحسنون صُنعًا؟!
إنَّ من نعمةالله على الإنسان أن يُنيرَ بصيرته وهو غارق لأُذنيه في ظُلمة المعاصي،ويُعينه بنور الهداية على الْمُضِي قُدُمًا بلا مَللٍ أو كَلل في دروبهاالشائكة، غير خائف أو واجلٍ،وكيف يخالج جوانِحَه خوفٌ وقد أبصرَ طوقَ النجاة على مَرْمَى البصر؟!
وكيف يتردَّدفي سلوك الطريق القويم بعد أنْ عرف لسانُه حلاوةَ الذِّكْر، وامتلأ قلبُهبالخشية من ربِّه والإيمان بقُدرته وعَظَمته، والطَّمْأَنينة بقُربهومناجاته،والثِّقة وحُسن الظنِّ برحمته وعَفوه؟!
قال - تعالى - في كتابه الكريم: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ* الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ [الرعد : 28 - 29].
فهل مَن عرف حقيقة نفسه، وطَرَق فلاحها ونجاتها يتردَّد لَحظة في اتِّخاذ قراره؟طبعًالا، وإنما يسارع لسلوك الطريق الصعب؛ للخروج منه قبل أن تَجرِفَه عواصفُالمعاصي وتَبعاتُها، إن ظَلَّ يُمَنِّي نفسه بالنجاة دون أن يتَّخِذالعُدَّة للصمود، ويتأهَّب بما قَذَف الله به في قلبه في غَفلة مِن هواهوشيطانه، في لحظة تجلَّتْ له فيها عَظَمة الله وقُدرته، فاقْشَعرَّ بدنُه،وخَشَع لها قلبُه، وأدمعتْ من خشيته عيناه،وقد أفلح إن فازَ بالنجاة.
يقول ابن القَيِّم في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (1/ 43) ما مختصره:
"فإن مَن لَمتُولَد رُوحه وقلبُه، ويَخرج من مَشيمة نفسه، ويتخلَّص من ظُلمات طبعهوهواه وإرادته، فهو كالجنين في بطن أُمِّه الذي لَم يرَ الدنيا وما فيها.
فهكذا هذاالذي بعدُ في مشيمة النفْس، والظلمات الثلاث هي: ظُلمة النفْس، وظُلمةالطبْع، وظُلمة الهوى، فلا بد من الولادة مرَّتين؛ كما قال المسيحللحَوَاريين: إنَّكم لن تَلِجوا ملكوت السماء؛ حتى تُولَدوا مرَّتين؛ ولذلككان النبي - صلى الله عليه وسلم - أبًا للمؤمنين؛ كما قراءة أُبَيّ: "النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم"؛ولهذا تفرَّع على هذه الأُبوَّة أنْ جُعلتْ أزواجُه أُمَّهاتِهم، فإنَّأرواحَهم وقلوبهم وُلِدَتْ به ولادة أخرى غير ولادة الأُمَّهات، فإنهأخْرَجَ أرواحَهم وقلوبَهم من ظلمات الجهل والضلال والغَي إلى نور العلموالإيمان، وفضاء المعرفة والتوحيد، فشاهدتْ حقائق أُخَر وأمورًا لم يكنْلها بها شعورٌ قبله؛ قال - تعالى -: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [إبراهيم: 1]، وقال: ﴿هُوَالَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْآيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْكَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]".
ثم قال - رحمه الله:
"والمقصود: أنَّ القلوب في هذه الولادة ثلاثة: قلبٌ لَم يولَد ولَم يَأْنِ له، بل هوجَنين في بطن الشهوات والغَي والجهل والضلال، وقلب قَد وُلِد وخَرج إلىفضاء التوحيد والمعرفة، وتَخلَّص من مَشيمة الطباع، وظُلمات النفس والهوى،فقرَّتْ عينُه بالله، وقرَّتْ عيونٌ به وقلوب، وأَنِسَتْ بقُربه الأرواح،وذَكَّرَتْ رؤيته بالله، فاطمأنَّ بالله وسَكَن إليه، وعَكَف بِهِمَّتهعليه، وسافرتْ هِممُه وعزائمُه إلى الرفيق الأعلى، لا يقر بشيءٍ غير الله،ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئنُّ بغيره، يجد مِن كل شيءٍ سوى اللهعوضًا، ومَحبَّته قوَّته، لا يجد من الله عوضًا أبدًا، فذِكْرُه حياة قلبه،ورضاه غاية مَطلبه، ومَحبَّته قوَّته، ومعرفته أَنِيسه، عدوُّه مَن جَذَبقلبَه عن الله - وإن كان القريب المصافي - ووليُّه مَن ردَّه إلى اللهوجَمَع قلبَه عليه - وإن كان البعيد المناوِيَ - فهذا قلبان متباينان غايةالتبايُن، وقلب ثالث في البرزَخ ينتظر الولادة؛ صباحًا ومساءً، وقد أصبحعلى فضاء التجريد، وآنَسَ من خلال الديار أشعة التوحيد، تأبَى غَلباتالحبِّ والشوق إلاَّ تقرُّبًا إلى مَن السعادة كلُّها بقُرْبه، والحظُّ كلالحظ في طاعته وحُبِّه، وتأبَى غَلبات الطباع إلاَّ جَذْبة وإيقافهوتعويقه، فهو بين الداعين تارةً، وتارة قد قَطَع عَقبات وآفات، وبَقِي عليهمفاوز وفَلوات.
والمقصود: أنَّ صاحب هذا المقام إذا تحقَّق به؛ ظاهرًا وباطنًا، وسَلِم عن نظرِ نفسهإلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقيرٌ حقيقي، ليس فيه قادحٌ منالقوادح التي تحطُّه عن درجة الفقر"؛ أ.هـ.
أخي القارئ:
بناءً علىما سَبَق يتَّضِح لنا أنَّ الإيمان بأنه لا نافع ولا ضارَّ إلا الله،يجعلُنا لا نتردَّد ألبتة في الْمُضي في الطريق بلا تردُّدٍ، بعزيمة وإيمانوقوَّة، ويقين بأنَّ الله غالب على أمره، ومُتِمُّ نوره وناصرُ عباده،ومؤيِّدهم برعايته ورحمته، لا يضر المرء كَيْد الكائدين، ولا تهويل أصحابالهوى، ولا يغتر بكثرة الهالكين.
وختامًا لبيان زَيف هذه الحجة أقول: إن أهْلَها نسوا أو تناسوا قول الله - تعالى -: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: 17].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((احفظِ الله يحفظْك، احفظِ اللهتجده تجاهك، إذا سألتَ فأسال الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، واعلم أنالأُمَّة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتَبَهالله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتَبَهالله عليك، رُفَعَت الأقلام وجَفَّت الصحف))؛ أخرجه الترمذي، (4/ 2516)،وأحمد في مُسنده، (1/ 293)، وإسناده صحيح.
ومِن ثَمَّ،ألا نامتْ أعينُ الْجُبناء الذين تخلَّوا عن تعاليم دينهم؛ جَرْيًا خَلفزينة الدنيا الفانية، وقاتلوا عليها مَن هم على شاكِلتهم،من أجل ماذا؟لا أدري!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العَلِي العظيم.
الحجة الثانية:
أنا أُريدأن أتوبَ، ولكن العصر قد اختلف وتغيَّر، ومن ثَمَّ طَغَتِ المادِّيَّات علىحياتنا، وصار الدين مُجرَّدَ طقوسٍ بين العبد وربِّه، وانتشرت الإباحيَّةفي كل مكان، حتى داخل البيوت؛ عن طريق جهاز التِّلفاز وأطباق الدِّش،فضلاً عن المجلات التي تعرِضُ صُوَر النساء العاريات من الفنانات، وموديلاتالدعاية للشامبو والصابون، والسيارات والأجهزة المنزلية، وحتى لُعَبالأطفال، صارت المرأة مادة إثارة لِجَذْب الزبون، وتبرَّجتِ النساء، حتىالمحجَّبات منهنَّ؛ لِجَهْلهن بشروط الحجاب، أو لِمُسايرة حجاب بيوتالأزياء الذي لا يرتبط بشروط الحجاب الشرعي بأيِّ رابطٍ، اللهم إلا فيالاسم دون الجوهر، وفي الجملة انتشر الفساد في البر والبحر بما كسبتْ أيديالناس، وأمام كلِّ هذه الفِتَن والكوارث والمصائب و...و..!!
كيف أتوب وأستقيم وأرى ما أرى، ولا أستطيع الانفكاك عنه والهروب منه؟!!
الرد علي الحجة الثانية:
الردُّ سهلٌويَسير لِمَن أراد حقًّا الهداية، وليكنْ معلومًا أنه ما صارتالفِتن تتساقط على رؤوسنا، والبركة تضيع من أيدينا، والمعاصي تزداد فيأعمالنا - إلا بالبُعد عن الله تعالى وهَدْي النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى المرءِ أن يكون صريحًا في بيان الداء والدواء لِمَا أصاب حاله، إنأرادَ حقًّا التوبة والاستقامة، لا الجدال والاستطالة، والفَرق بين هذاوذاك كبير للغاية كما لا يَخفى، ومِن ثَمَّ نقول ردًّا على القول بتغيُّرالزمان بسؤال واضحٍ لا لَبْسَ فيه ولا غموض،ما الذي تغيَّر وتبدَّل يا أهل المعاصي؟
القرآنالكريم بين أيدينا لم يتغيَّرْ فيه حرف، ومنقول إلينا بالتواتُر اللفظي عنجَمهرة كبيرة من الصحابة، فضلاً عن أنه محفوظ بحِفظ الله تعالى؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
والسُّنةمحفوظة أيضًا بنصِّ الآية السابقة؛ لأن القران مُجمَل والسُّنة مُفَسِّرةله، وحِفْظُها من حِفظه كما لا يَخفى على اللبيب، وقال العلماء: حِفظالقرآن يتوقَّف على حِفظها، ومستلزم له بما أنها حِصنه الْحَصين، ودِرْعهالمتين، وحارسه الآمين، وشارحه المبين؛ تفصِّل مُجْمله، وتفسِّر مُشكله،وتوضِّح مُبْهَمة، وتقيِّد مُطْلَقه،وتَبْسُط مختصره، وتدفع عنه عَبَث العابثين ولَهْوَ اللاهين، وتأويلهمإيَّاه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما تُمليه عليهم رؤوسهم وشياطينهم،فحفظُها من أسباب حِفظه، وصيانتها صيانة له"؛ "حُجيَّة السُّنة"؛ د. عبدالغني عبدالخالق، ص:391.
ولقد بذَلالعلماء الْجُهد المشكور في بيان صحيحها من ضَعيفها؛ حتى لا يدخل في كلامالنبي ما ليس منه، ولله الحمد والمنَّة، فهي محفوظة إذًا بحفظ الله، وإنغابَ الحبيب عنَّا بجسده، فلا غَرَابة في ذلك، فلم يَكتب الله لأحدٍ منخَلْقه الخلود في الدنيا وهو القائل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185].
ثم السنة - كما هو معلوم - اثنا عشر شهرًا، فهل قَلَّتْ أو زادتْ عمَّا كان أيام النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته شيئًا، حتى يُقال: إنَّ العصر قد اختلف، وما يُقال عن السنة يُقال عن الأسبوع، هل هو سبعة أيام كما كان في عهد النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه،الأمر لا يحتاج إلى تعليقٍ.
فما الذي تغيَّر إذًا؟!
من المؤْسِفأن يتحجَّج البعضُ ويتمسَّك بقَشَّة الزمن رغم هشاشتها ولِينها، وما في ذلكمن سرعة سقوطهم في براثن الشيطان؛ ليُحِلُّوا لأنفسهم الخروج عن شَرْعالله - تعالى - ومن المستحيل أن يكون لسانُ حال هؤلاء هو هذا السؤال: كيف أتوب؟لأنهمن البداهة أن من يريد التوبة حقًّا يعدُّ العُدَّة ويُخْلِص النيَّة،ويُكثِر الزاد ويُجاهد نفسَه وهواه، ويلتمس وسائل الثبات على الدِّين، لاوسائل إبليسيَّة تدعوه إلى رَدِّ المعروف وإتيان المنكر، والسعي لانتصارالنفس على حساب الدين، أو إرضاء شهواتها على أطلال الفضيلة والقِيَمالأصيلة التي تعارَف عليها الناس ولا تُخالف الشرْع، بل تندمج فيه وتأخذشرعيَّتها منه.
ولا بأْسَ أننبيِّن لصاحب هذه الحجة زَيفها وبطلانها؛ لأن الإقناع هو الوسيلةالفعَّالة لردِّ العاصي عن مَعصيته، وإعانة التائب على توبته، وزيادة حماسأهْل الصلاح والتقوى على الْمُضِي قُدمًا على الطريق القويم، وصراط اللهالمستقيم.
نعم، يعيشالمسلمون اليوم أزهى عصور التقدُّم العِلمي والتكنولوجي في كثيرٍ من بقاعالعالم، فنحن في عصر الكمبيوتر والإنترنت، عصر حبوب الفياجرا والاستنساخ،وهَلُمَّ جرًّا.
ولكن للأسفالشديد، ما زال كثيرٌ من المسلمين يعيشون جاهلية التخلُّف والجمود، ولاأقصد جاهليَّة الأخْذ بالعلوم العصريَّة ومواكبة التقدُّم العِلمي، طبعًاهذا يخالف واقِعَ الحال؛ فالأُمَّة الإسلاميَّة - ولله الحمد والمنَّة - انتشرتْ فيها التكنولوجيا المتقدِّمة والمتطوِّرة، وأحدث ما وصلتْ إليهالعقليَّة الإنسانية من العلوم والفنون، فقطعًا هذا ما لا أقصده، إنما أقصدجاهليَّة الاتِّباع الأعمى بلا وَعْي للحضارة الغربية والأمريكيَّة،والانسلاخ من الْهُويَّة والإسلامية بما فيها من قِيَمٍ وتعاليمَ ومبادئسامية إلى عادات وتقاليد شعوب تعيش انهيار أخلاقي إلى جانب تقدُّمهاالعِلمي، معتقدين أنَّ الأخْذ بكل ما في تلك الحضارتين من فضائل ورذائل هوالسبيل الوحيد للرُّقِي والتقدُّم.
ومِن ثَمَّ لا ريبَ أن سعادتنا الحقيقيَّة - في الدنيا والآخرة - في عودتنا إلى ديننا الحنيف، وأخلاقنا وتقاليدنا السامية،مع الأخْذ بالتقدُّم العِلمي والاحتراز من العادات الشاذَّة، والاندفاعللأخْذ بها بتهوُّرٍ وجنون، بلا وَعْي لعواقبها ولا تفكير لإدراك فائدتهاقبل الدعوة لانتشارها بين الناس، فليس الجميع على مستوًى واحدٍ من الفَهموالإدراك، وليس الجميع على مستوًى واحدٍ في قوة الإرادة والعزيمة.
قال - تعالى -: ﴿أَهُمْيَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْفِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍلِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌمِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].
وإهمال مثلهذا الفارق الفِطْري والجوْهَري في طبيعة أبناء آدم - عليه السلام - الذينجعلهم الله - سبحانه وتعالى، رغم الاختلاف البيِّن فيما بينهم - في تجانُسوانسجام، واحتياج بعضهم بعضًا،وزَرَعفي قلوبهم الميْلَ الفِطْري والتعاون المثْمِر لالْتِماس ما ينقصهم؛ مِنعلمٍ أو مال، أو قوَّة أو ذكاء وعبقريَّة، أو ما أشبه ذلك عند مَن أكَرَمهالله وأعطاه من صفات وخصائص ينفرِدُ بها عن أقرانه؛ ليكون هذا من وسائلالرِّزْق التي كَتَبها الله - تعالى - لعباده ووعَدَهم بها وضَمِنها لهم؛سواء اختار العبد الطريق القويم المستقيم، أو ضلَّ طريقه لِمَا أصابه منعَمَى البصر والبصيرة؛ قال - تعالى -: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].
أقول:أدَّى الانفتاح على العالَم في عصر العوْلَمة دون مُراعاة هذا الفارقالجوهري في طبيعة الإنسان إلى نتيجة سلبيَّة على جانب عظيم من الخطورة،وإلى إشاعة الفوضى وعُلو أهْل المنكر على أهْل المعروف، وأصبحتْ مقاديرالعلوم والثقافة في يد مَن لا يفقه شيئًا في دين الله - تعالى - وبالتبعةكان من عواقب ذلك الانهيار الأخلاقي بين أفراد الأُمَّة، فضلاً عن الفقرالثقافي والديني الذي أصابها بعد أن ظهَرَ النبوغ والعبقريَّة بَغْتة علىعقول بعض أصحاب الفِكر والبَلْبلة؛ من خُطباء الفتنة، ومنكري السُّنة،وأنصار التنوير، فأغرقوا الأُمَّة في سفسطة جَدَليَّة وهَدَموا ثوابت الدينرأْسًا على عقب بحجة أنها السبب في تخلُّفنا عن رَكْب الحضارة، فأهملواتعاليمَ دين ربِّ العالمين، وسُنَّة النبي الأمين-صلَّى الله عليه وسلَّم - واتبعوا تعاليم الشيطان الرجيم وأوليائه، وصَدَّعوا رؤوسنا بمذاهب شتَّى،وآراء عنتريَّة وسخافات جدليَّة، واتهموا العلماء وَرَثة الأنبياءبالغُلوِّ والتطرُّف عن سماحة الدين، وبصموا بالعشرة أنَّهم السبب الأساسفي إفساد الشباب، ولو تأمَّلنا حال الشباب الذين أفسدَهم مشايخ التطرُّف،لا نجد إلا شبابًا مَهْووسًا من الجِنسَيْن، إلاَّ مَن رَحِم ربي، يشق أنْتُميِّز بين الذَّكَر والأنثى فيما بينهم؛ لِمَا أصابهم من تخنُّث وميوعة،ووَلَع "بروبي ونانسي عجرم"،ولاعبي الكرة الذين صاروا أصحاب ملايين، وسلعة لها سوق رائجٌ لا يبور لِمَنيدفع أكثر، لا نجد إلا شبابًا يبحث عن الشهرة والثَّراء السريع باتِّباعالطرق الملتوية والرِّياء والنفاق الفاضح؛ لكَسْب القلوب السقيمة البعيدةعن الله تعالى.
ومِن ثَمَّنقولها بكل حياد وصراحة: إن إنسانَ عصرِ العَولَمة والعلوم العصريَّة،والحوار بين الأديان .... إلى آخره - أصبح يعاني من ابتلاءاتٍ شتَّى،وصعوبات جَمَّة، على الرغم من التقدُّم العلمي المذْهِل، ولا فارِقَ فيذلك بين غَنِي قادر، وفقير عاجز، أو متعلِّم مُدرك وواعٍ، وجاهل أُمِّيٍّتائه وحائر، وبين سليم معافًى، وسقيم يعاني ويُقاسي.
الإنسان هوالإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان، صارت الابتلاءات تَعصِف بكِيانه، وتذهببحُلمه ووقاره، وتُزلزل إيمانه ويقينه؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19 - 21].
نعم،ابتلاءات شتَّى تَعصِف وتكدِّر حياتك، ولكن لَم ولن تكون هذه الحجة عائقًاللإنسان أبدًا كي يستقيم على طريق الله - تعالى - ولأصحاب هذه الحجة أدعوهمإلى استشعار عَظَمة الافتقار إلى الله والالْتجاء إليه بالذِّكْر والدعاء،ونوافل الطاعات،فحقيقة الإيمان بالله تستلزم طاعته في السرَّاء والضرَّاء، في البليَّة والنعمة، فالمؤمن يفتقر إلى الله دائمًا، فهو الغني الحميد.
ولكن للأسفالشديد الأمر خلاف ذلك، فإذا أصاب الإنسان بَليَّة ابتعدَ عن الله وعنطاعته، وذِكْره وشُكْره، ولَجَأ إلى مخلوق مثله لا يملك له ولا نفسه نفعًاولا ضرًّا، وجَحَد نعمة الله عليه، وإن أصابتْه نعمة سُرَّ بها، ولجأ إلىالله بالشكر والذِّكْر، وفي ذلك يقول - تعالى -: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 15 - 16].
وهذه من صفاتالجاحدين والمنافقين، فَكُنْ غيرَ ذلك، واذكرِ الله - تعالى - في سَريرتكوعَلانيتك، في بَليَّتك ونعمتك، في سعادتك وشَقَائك، فإن في ذِكْرك لهرحمةً بك، واطمئنانًا لقلبك؛ قال - تعالى -: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
وفي الحديثالصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - تعالى -: أنا عند ظَنِّعبدي بي، وأنا معه إذا ذَكَرني، فإنْ ذَكَرني في نفسه، ذَكَرتُه في نفسي،وإنْ ذكَرَني في ملأ، ذَكَرتُه في ملأ خَير منهم))؛ أخرجه البخاري، (13)، ح (7405)، (فتح) ومسلم ( 4)، ذكر، (2061)، ح (2).
فعليك - أخيالقارئ - بالأذكار المختلفة في ذهابك وإيابك، في الصباح والمساء، لا تَغفلعن ذِكْر الله، ولا يفتر لسانُك عن التسبيح والتكبير، والتحميد والتهليل؛فإن ذلك من علامات حياه القلوب؛ لأن القلب الذي لا يذكر الله قلبٌ ميِّتٌ؛كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر،مثل الْحَي والميِّت))؛ أخرجه البخاري، ( 11- ح 6407- فتح).
ولا تنسَالدعاء؛ فهو مُخُّ العبادة، والْتَمِسْ أوقاتَ الإجابة، مثل: بعد الصلواتالمفروضة، وفي الثُّلث الأخير من الليل، وفي السجود لله - تعالى - وعندنزول الغَيْث، وغير ذلك، واعلم أنَّ الله على كل شيءٍ قدير؛ قال - تعالى -: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].
ولا تنسَ أنتدعو بهذا الدعاء العظيم الذي كان يدعو به النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم أصلحْ لي ديني الذي هو عِصمة أمري، وأصلحْ لي دنياي التي فيهامعاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها مَعادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلِّخَير، واجعل الموت الموت راحةً لي من كلِّ شَرٍّ))؛ أخرجه مسلم، ( 4- ذكر – 2087- ح 71).
وحَذارِ أنتتعجَّل الإجابة وتترك الدعاء؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يُستجابلأحدكم ما لَم يَعجَلْ؛ يقول: قد دعوتُ ربِّي، فلَم يَستجبْ لي))، وفيرواية لمسلم: ((لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثْمٍ، أو قطيعةرَحِم، ما لَم يستعجِلْ))، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أرَ مَن يستجيب لي، فيستحْسِر عند ذلك، ويَدَعُالدعاء))؛ أخرجه البخاري، (11- ح 6340- فتح)، ومسلم، (4 - ذكر - 2096 - ح92).
وعليك - أخيالمسلم - من الإكثار من النوافل؛ من صلوات وصيام، إلى غير ذلك من الطاعاتالتي تقرِّبك من ربِّك إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، واعلم أنَّالجزاء من جِنس العمل، فمن ابتغى رضا الله، وتقرَّب إليه بسائر الطاعات؛ لايَلْجَأ إلا إليه، ولا يسأل سواه، ولا يَفْتَقِر إلا إلى رحمته، فإن الله - تعالى - سوف يَكْشف عنه السوءَ، ويُذْهِب عنه ما به مِن هَمٍّ وغَمٍّوحزن؛ قال - تعالى -: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62].
وتذكَّر أنَّدوام الحال من المحال، وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابههاجروا من مكة إلى المدينة، تاركين الأهلَ والمال، والعشيرة والديار،وظلُّوا على إيمانهم وجِهادهم مؤمنين بنصر الله، وأنَّ مع العسر يُسْرًا،وأنَّ الفرج قريبٌ، حتى قضَى الله أمرًا كان مفعولاً، ودَخَل النبي إلى مكةومعه 10 آلاف مقاتل من المسلمين، وحَطَّم الأصنام وهو يقول قول الحقِّ - جل وعلا -: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].
وصعد بلالعلى الكعبة، فأذَّن وصَدع بكلمة التوحيد، ودَخَل الناس في دين اللهأفواجًا، وعاد أصحابُه إلى الأهل والعشيرة والديار بالصبر والإيمان، فدوامالحال من المحال.
واعلم أنه لا بدَّ للمرء أن يمرَّ بثمانية أشياء؛ كما قال أهل العلم: عُسر ويُسر، حُزن وفَرح، لقاء وفِراق، سُقْم وعافية.
تلك هيسُنَّة الله في خَلقه، فالْتزم بأوامر الله وسُنَّة رسوله الله - صلى اللهعليه وسلم - لا تحِد عنهما، ولا تتَّبعِ الهوى، ولا يغرَّك بالله الغرور،وما أجمل قولَ الشاعر:أنَ للهِ عِبَادًا فُطنَا[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/100/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image001.gif[/IMG]طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/100/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image001.gif[/IMG]نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/100/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image001.gif[/IMG]أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/100/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image001.gif[/IMG]جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/100/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image001.gif[/IMG]وتذكَّر - أخي القارئ - أنَّ أكثر الناس بلاءً الأنبياء فالصالحون، فالأمثل، فالأمثل.صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/100/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image001.gif[/IMG]
نعم، تذكَّرولا تنسَ أبدًا أنَّ البلاء شعارُ الصالحين، وعلى قَدْر إيمان العبد يكونبلاؤه، فإن كان إيمانه قويًّا، كان البلاء كذلك، حتى قيل: إذا سلك بك سبيلالبلاء، فَقَرَّ عينًا؛ فإنه يسلك بك سبيل الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بكسبيل الرَّخاء فابْكِ على نفسك؛ فقد خُولِف بك عن سبيلهم.
الحجة الثالثة:
أنا أريدُ أن أتوبَ ولكنَّ النساء أخطرُ الفِتَن على الشباب غير المتزوِّج، وتبرُّجهن وكَشْفهن ما يجب إخفاؤه، مع صعوبة تكاليف الزواج، وخوف الفتاة من تقدُّم السِّنِّ دون زواج، أدَّى إلى وقوعهما معًا في الْحرام بجَهْلٍ بالشرع، أو تعمُّد وقَصْدٍ، والحال مستمر باستمرار السبب، والغريزة الجنسيَّة من أخطر غرائز الإنسان، فهل يكفي ما نسمعه من مواعظَ عن الصوم وغَضِّ البصر؟ وإلى متى؟ وماذا عن الشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء؟ فكيف أتوبُ ودوام الطاعة مع هذه الفِتن والانفلات الذي لا يردعه دينٌ أو قانون من المحال أن تستمرَّ؟
وللردِّ على هذه الحجة نقول:
إنَّ الغريزة الجنسيَّة حقًّا من أخطر غرائز الإنسان، ولقد أباحَ الله - تعالى - لنا إرواءَ هذه الغريزة بالزواج الحلال؛ لحِفْظ النَّسْل، وإنشاء جِيلٍ جديدٍ، واستمرار تعمير الأرض، وقيام الإنسان بمسؤوليَّته في تحمُّل واجبات الخلافة ومسؤوليَّاتها الجسيمة.
وبَدهي أنَّ الوضْع الفِطري أنَّ المرأة هي المطلوبة، والرجل هو الطالب لها، والقائم على مُتطلَّبات الزواج كلِّها، اللهم إلا إذا شاركتْه المرأة في بعض هذه الأشياء من باب العُرف السائد في دنيا الناس، وهو أمرٌ غير مُلزم لها، ولكنَّه محمودٌ في ذاته؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
إنَّ النساء - كما هو معلوم - من أخْطَر الفِتن؛ لأنها المرغوبة؛ ولهذا جعَلَها الله - تعالى - أوَّل مَراتب الشهوات وأخطرها على الإطلاق؛ قال - تعالى -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، والزواج هو الحلُّ الجذري لقَطْع دابر الفتنة التي نشأتْ بسبب هذا الانفلات؛ ولكن، بكل مصداقيَّة وحِياد أقول: ساعَدَ على هذا الانفلات تبرُّج النساء، وكَشْفُهن ما يجب إخفاؤه، مع صعوبة تكاليف الزواج، وإعراض الشباب عنه؛ لعجزهم عن مُؤْنته، ورُبَّما لخوف الفتاة من تقدُّم السِّنِّ دون زواج، ورُبَّما لِمَيْلها الغريزي للتزيُّن وجَذْب انتباه الشباب؛ لإرضاء أنوثتها ونفسها الأمَّارة بالسوء، ورُبَّما لغير ذلك.
وقد أدَّى ذلك كلُّه إلى إشعال الفتنة، وتهيُّج الغريزة الجنسيَّة للجنسيين إلى أقصى حَدٍّ، ومع زيادة العُري والاختلاط الفاحش بحجة المساواة، والْخَلوة المدمِّرة للشَّرف والفضيلة بلا حسيب أو رقيب، أو رادعٍ من دِين أو أهْل بحجة الحريَّة الشخصيَّة، ومُحَاولة إرضاء النفْس بالحرام الميسور بعد أن صارَ الحلال صعبًا.
وكانت النتيجة الطبيعيَّة لهذا الهبوط والانفلات أنْ تراجَعَ الوازع الديني وما تعارَفَ عليه الناس من قِيمٍ وأخلاقيَّات بين الشباب والفتيات معًا، إلاَّ مَن رَحِم ربِّي، ولَجَأ الشبابُ من الجنسيين إلى إرضاء ذاته وشَهَواته بطُرقٍ مَزالقُها خَطِرة، أدَّتْ إلى تفَشِّي الفجور في المجتمع، فانتشرَ بينهم الزواج السِّرِّي، والزواج العُرْفي الذي لا يستندُ إلى أركان الزواج الصحيح؛ من موافقة الوَلِي، والشهود، والصَّدَاق، والإشهار، وإنما هو زواجٌ "مودرن" على هوى النفْس؛ لإشباع الغرائز المكبوتة؛ لارتفاعِ تكاليف الزواج وصعوبته.
ورغم كل ذلك، فليس صلاح النفس وتقواها وبُعْدها عن عوامل الإثارة المهيجة للشهوة - حتى يقضي الله تعالى أمرًا كان مفعولاً - بمستحيل، فقط ما علينا إلا أنْ نتَّبِع الصراط المستقيم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
ولذا فمقولة: إنَّ الصوم وغَض البصر لا ينفعان في هذا الزمان، مَقولةٌ غير صائبة بالمرة، بل هي حجة ضعفاء الإيمان والإرادة، الذين أسلموا قِيادتهم للشيطان وأوليائه، ولو تمهَّلوا وتدبَّروا لوجدوا في "غَضِّ البصر والصوم" الملاذَ من فتنة النساء، ولو زادوا عليهما أمرًا ثالثًا، وهو أمرٌ جَوْهَري يتقدَّم الصوم وغَض البصر، بل هو العمود الفقري لهما، ولا فائدة منهما إنْ أهْمَله المرءُ، وها هي الأمور الثلاثة لِمَن أراد النجاةَ والفلاح بشيءٍ من البيان والتوضيح.
الأمر الأول والجوهري: قوة الإرادة والعزيمة:
يقول ابنُ القَيِّم (ص182) في كتابه "طريق الهجرتين" ما مُختصره:
وكذلك النفس: فما يحصل لها من شَرٍّ، فهو منها ومن طبيعتها، ولوازم نَقْصها وعَدمها، وما يحصل لها من خَيْرٍ، فهو من فَضْل الله ورحمته، والله خالقُها وخَالقُ كل شيءٍ قامَ بها؛ من قُدْرة وإرادة، وعِلْم وعمل، وغير ذلك... إلى أنْ قال:
فالنفس لا تكون إلا مُريدة عاملة، فإن لم توفَّق للإرادة الصالحة، وإلا وقعتْ في الإرادة الفاسدة، والعمل الضار، وقد قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ [المعارج: 19 - 22].
فأخبر - سبحانه - أنَّ الإنسان خُلِق على هذه الصفة، وأنَّ مَن كان على غيرها فلأجْل ما زكاه الله به من فَضْله وإحسانه، وقال - تعالى -: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].
قال طاوس ومُقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساء، وقال الحسن: هو خَلْقُه من ماءٍ مهين، وقال الزجَّاج: ضَعف عَزْمه عن قَهْر الهوى، والصواب: أنَّ ضَعْفه يعم هذا كله، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر؛ فإنَّه: ضعيف البنْيِة، ضَعيف القوَّة، ضعيف الإرادة، ضعيف العِلم، ضعيف الصبر، والآفاتُ إليه مع هذا الضَّعف أسرعُ من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لا بدَّ له مِن حافظٍ مُعين، يُقَوِّيه ويُعينه، وينصره ويساعده، فإن تخلَّى عنه هذا المساعد المعين، فالهلاك أقربُ إليه من نفسه... ثم قال:
فالقدرة إن لم يكنْ معها حِكمة، بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظرٍ في العاقبة، ولا حِكمة محمودة يَطْلبها بإرادته، ويَقْصدها بفِعْله، كان فِعْلُه فسادًا، كصاحب شهوات الغَي والظلم، الذي يفعل بقوَّته ما يريده من شهوات الغَي في بَطْنه وفَرْجِه ومِن ظُلْم الناس، فإن هذا وإنْ كان له قوَّة وعِزَّة، لكنْ لَمَّا لَم يقْتَرن بها حِكمة، كان ذلك معونة على شَرِّه وفساده، وكذلك العِلم كماله أن تَقترن به الحِكمة، وإلاَّ فالعالم الذي لا يريد ما تَقتضيه الْحِكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سَفِيهٌ غاوٍ، وعِلمه عَونٌ على الشرِّ والفساد، هذا إذا كان عالِمًا، قادرًا، مُريدًا، له إرادة من غير حِكْمة، وإن قُدِّرَ أنَّه لا إرادة له بحال، فهذا أولاً مُمتنع من الحي، فإن وجودَ الشعور دون حبٍّ ولا بُغض ولا إرادة ممتنعٌ، كوجود إرادة دون الشعور، وأمَّا القُدرة والقوَّة إذا قُدِّر وجودُها دون إرادة، فهي كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعيَّة التي هي مبدأ الفِعْل والحركة لا إرادة لها، وقد قال بعضُ الناس: إنَّ للجماد شعورًا يليق به، واحْتَجَّ بقوله - تعالى -: ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 74]، وبقوله - تعالى -: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 77].
وهذه المسألة كبيرة تحتاج إلى كلامٍ لا يَليق بهذا الموضِع، والمقصود أنَّ العلم والقُدرة المجرَّدين عن الحِكمة لا يحصل بها الكمال والصلاح، وإنَّما يحصل ذلك بالْحِكمة معها، واسمه - سبحانه - ((الحكيم)) يتضمَّن حِكْمته في خَلْقه وأمْره في إرادته الدينيَّة والكونيَّة، وهو حكيمٌ في كلِّ ما خَلَقه وأمَرَ به"؛ أ .هـ.
ولعلَّنا لو ذَكَّرْنا القارئ بقصة مراودة امرأة العزيز ليوسف - عليه السلام - لكُفِي وشُفِي، وأدْرَكَ المقصود بقوَّة الإرادة هنا؛ قال الشوكاني في تفسير الجزء :3/ 23، لقوله - تعالى -: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23].
المراودة: الإرادة والطلب برِفْقٍ ولِين، وقيل: هي مأخوذة من الرَّود؛ أي: الرِّفْق والتأنِّي، يُقال: أَرْوِدْنِي: أمْهِلني، وقيل: المراودة مأخوذة مِن رادَ يَرود: إذا جاء وذَهَب، كأن المعنى: أنَّها فعلتْ في مراودتها له فِعْل المخادِع، ومنه الرائد لِمَن يطلبُ الماء والكَلأ، وقد يخصُّ بمحاولة الوِقَاع، فيُقال: رَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، ورَاوَدَتْه هي عن نفسه: إذا حاول كلٌّ منهما الوطء والْجِماع، وهي مفاعَلة، وأصلُها أن تكونَ من الجانبين، فجعل السببَ هنا في أحد الجانبين قائمًا مقامَ المسبب، فكأن يوسف - عليه السلام - لما كان ما أُعطيه من كمال الْخَلق، والزيادة في الْحُسن سببًا لمراوَدَة امرأة العزيز له - مُراوِدٌ، وإنَّما قال: ﴿ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ﴾، ولم يَقل: امرأة العزيز أو زليخا؛ قصْدًا إلى زيادة التقرير، مع استهجان التصريح باسمِ المرأة، والمحافظة على الستر عليها، ﴿ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ ﴾، قيل: في هذه الصيغة ما يدلُّ على التكثير، فيُقال: غَلَّق الأبواب، ولا يُقال: غَلَق الباب، بل يُقال أغْلَق الباب، وقد يُقال: أغْلَق الأبواب، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
َمازِلْتُ أُغْلِقُ أَبْوَابًا وَأَفْتَحُهَا[IMG]file:///D:/DOCUME%7E1/100/LOCALS%7E1/Temp/msohtml1/01/clip_image002.gif[/IMG]قيل: وكانتِ الأبواب سبعة.حَتَّى أَتَيْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ عَمَّار
قوله: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾: ومعنى هَيْتَ على جميع القراءات معنى هَلُمَّ وتَعالَ؛ لأنها من أسماء الأفعال، ثم قال: وقد رُوي عن ابن عباس والْحَسن أنَّها كلمة سريانيَّة، معناها: أنها تدعوه إلى نفسها، قال أبو عبيدة: كان الكِسائي يقول: هي لغة لأهل "حوران" وقعتْ إلى أهل الحجاز، معناها: "تعالَ"، قال أبو عبيدة: فسألتُ شيخًا عالِمًا من "حوران"، فذَكَر أنها لغتهم.
﴿ قال معاذ الله ﴾؛ أي: أعوذ بالله معاذًا مما دعوتِني إليه، فهو مصدر منتصبٌ بفِعْلٍ محذوف مُضاف إلى اسم الله - سبحانه - وجملة ﴿ إنَّه ربِّي أحسن مثواي ﴾: تعليل للامتناع الكائن منه ببعضِ الأسباب التي هي أقربُ إلى فَهم امرأة العزيز، والضمير للشأْن؛ أي إن الشأْنَ ربِّي؛ يعني: العزيز؛ أي: سيِّدي الذي ربَّاني وأحْسَن مثواي؛ حيث أمَرَكِ بقوله: ﴿ أكْرِمي مثواه، ﴾ فكيف أخُونُه في أهْله، وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟! وقال الزجاج: إنَّ الضمير لله - سبحانه - أي: إن الله ربِّي تولاَّني بلُطْفِه، فلا أركب ما حَرَّمه، وجملة ﴿ إنَّه لا يفلح الظالمون ﴾ تعليل آخرُ للامتناع منه عن إجابتها، والفلاح: الظفر، والمعنى: أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومِن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تَطلبها امرأة العزيز من يوسف"؛ ا. هـ.
الأمر الثاني والثالث: الصوم وغَض البصر:
بعد هذا الكلام القَيِّم ندركُ أنَّ الإرادة السليمة حقًّا مَن لَجَأ صاحبُها إلى خالقه يلتمس عنده الدواء، والرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم - بيَّن لنا العلاج والدواء، فقد أخْرَجَ البخاري في النكاح وغيرُه أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءَة فليتزوَّج، ومَن لَم يستطعْ فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجَاءٌ)).
قال الحافظ ابن حجر عند شَرْح الحديث: ((فعليه بالصوم فإنَّه له وِجَاء))؛ بكَسْر الواو وبجيم ومَدٍّ، وهو رَضُّ الْخُصْيَتين، وقيل: رَضُّ عُروقهما، ومَن يُفْعَل به ذلك تنقطع شهوتُه، ومقتضاه أنَّ الصوم قامعٌ لشهوة النكاح، واستشكلَ بأنَّ الصوم يزيد في تهييج الحرارة، وذلك مما يُثير الشهوة، لكن ذلك إنَّما يقع في مبدأ الأمر، فإذا تمادَى عليه واعتادَه، سَكَن ذلك، والله أعلم".
وأما غَضُّ البصر، فقد قال - تعالى -: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 30 - 31].
وفيما أخرجه أبو داود وغيره في النكاح عن جرير قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفَجْأة، فقال: ((اصرفْ بَصَرك)).
وقال ابن القَيِّم في "زاد المعاد"، الجزء :2/ 27:
"لَمَّا كان المقصود من الصيام حَبْسَ النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قُوَّتها الشهوانيَّة؛ لتستعدَّ لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقَبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبديَّة، ويَكسر الجوع والظمأ من حِدَّتها وسَوْرتها، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.
وتُضَيَّق مَجاري الشيطان من العبد بتضييق مَجاري الطعام والشراب، وتُحْبَس قُوَى الأعضاء عن استرسالها لِحُكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسَكّن كل عضو منها، وكل قَوَّة عن جِماحه، وتُلْجَم بلجامه، فهو لِجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامه وشرابه من أجْل معبوده، فهو تَرْكُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها؛ إيثارًا لمحبَّة الله ومَرْضاته، وهو سرٌّ بين العبد ورَبِّه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على تَرْك المفطِّرات الظاهرة، وأما كونُه تَرَك طعامَه وشَرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطَّلع عليه بَشَرٌ، وذلك حقيقة الصوم، وللصوم تأثيرٌ عجيب في حِفْظ الجوارح الظاهرة والقُوَى الباطنة، وحِمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولتْ عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صِحَّتها، فالصوم يحفظُ على القلب والجوارح صِحَّتها، ويعيدُ إليها ما استلبتْه منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الصوم جُنَّة))، وأمر من اشتدَّتْ عليه شهوة النكاح ولا قُدرة له عليه بالصيام، وجعله وِجَاءَ هذه الشهوة.
والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لَمَّا كانتْ مشهودة بالعقول السليمة، والفِطَر المستقيمة، شَرَعه الله لعباده؛ رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحِمْيَة لهم وجُنَّة.
وكان هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أكملَ الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس، ولَمَّا كان فَطْمُ النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقِّ الأمور وأصعبها، تأخَّر فرضُه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لَمَّا توطَّنتِ النفوس على التوحيد والصلاة، وألِفَتْ أوامر القرآن، فنُقِلَتْ إليه بالتدريج"؛ ا.هـ.
والحجج - كما قلتُ سلفًا - كثيرة، ولكن يَكفي ما ذكرناه من حجج وتبريرات لبيان مقصودنا من المقالة، والله من وراء القَصْد وهو يهدي السبيل.
اضغط هنا لتنزيل الملف
110 KB