الحمدُ لِلَّهِ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ، لهُ الأسماءُ الحسنَى، والصفاتُ العُلَى، الكاملِ في ذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ العظمَى، المُتَنـزهِ عن النقائِصِ، والمعايِبِ، وسائرِ ما لا يليقُ بكمالِهِ الأعلَى، المتقدِّسِ عنْ أنْ يكونَ لهُ شريكٌ، أوْ نظيرٌ، أوْ شبيهٌ يُسَامِيهِ في المقامِ الأَسمَى، المستحقِّ لكمالِ الحُبِّ، والحمدِ، والتعظيمِ، والإجلالِ على الوجهِ الأوفَى.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد
مقدمه في فضل العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى
فلهُ الحمدُ كلُّهُ، وبيَدِهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليهِ يرجعُ الأمرُ كلُّهُ، لا إلهَ إلاَّ هوَ وَحدَهُ لا شريكَ لهُ في الآخرةِ والأُولَى.
خلقَ الخلقَ من العدَمِ، وأسبغَ عليهم النِّعَمَ، وتعرَّفَ إليهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ، وأظهرَ آثارَها في أوامرِهِ ومخلوقاتِهِ؛ ليستدِلَّ بها الموفَّقُونَ على وحدانيَّتِهِ وصِدْقِ رُسُلِهِ وآياتِهِ، ويعرِفوا بها كمالَ ربِّهِم وجلالَهُ وجمالَهُ.
والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، وهدايَةً للسالكينَ، وحُجَّةً على الناكبينَ، نبيِّنَا محمَّدِ بنِ عبدِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
أمَّا بعْدُ:
فإنَّ أشرفَ العلومِ وأفضَلَها، وأجَلَّهَا وأَنْبَلَها: عِلْمُ العبدِ برَبِّهِ تعالى وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأحكامِهِ.
فهوَ العلمُ الجديرُ بأنْ تُصْرَفَ نفائسُ الأوقاتِ في تحصيلِهِ، وتُقَدَّمَ أعظمُ التضحياتِ في سبيلِ بلوغِهِ؛ فإنَّ ثمرَتَهُ لا تعدِلُها ثمرَةٌ، وحسرةَ حرمانِها لا تعدِلُها حسرةٌ، والحاجةَ إليهِ لا تعدِلُها حاجةٌ.
بلْ كلُّ علمٍ لا يُوصِلُ إليهِ ولا يُعِينُ عليهِ مَضْيَعةُ وقْتٍ، ومَجْلَبَةُ مقْتٍ.
وهلْ أشرفُ مِنْ عِلْمٍ: معلومُهُ بارئُ البَرِيَّاتِ، ومُبدعُ الكائناتِ، الذي لهُ الخلقُ والأمْرُ، بَهَرَ العقولَ ببديعِ خلقِهِ، وحارَت الألبابُ في حِكَمِ شَرْعِهِ، وأَنِسَت القلوبُ بلذيذِ مُناجاتِهِ، واستنارتْ بمعرفةِ أسمائِهِ وصفاتِهِ، وشَرُفَتْ بعلمِ أحكامِهِ وتشريعاتِهِ، مَنْ ذِكْرُهُ أُنْسٌ، وطاعتُهُ غُنْمٌ، والزُّلْفَى لديهِ أغلى الأمنياتِ.
وهلْ أفضلُ مِنْ علْمٍ: منْ ثمراتِهِ رؤيَةُ الملكِ العلاَّمِ، ومرافقةُ خِيرةِ الأنامِ، في جَنَّةٍ قدْ زُيِّنَتْ بما تشتهيهِ الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ، لا يخالطُ نعيمَها بؤْسٌ، ولا يُكَدِّرُ صفوَها شائبةُ كَدَرٍ، موضعُ سَوْطٍ فيها خيرٌ من الدنيا وما فيها من الحُطامِ.
وهلْ أجلُّ مِنْ علْمٍ: هوَ أساسُ الإيمانِ، ومعقدُ الامتحانِ، ومِضْمارُ تسابُقِ الفُرْسانِ، السابقُ فيهِ هوَ السَّبَّاقُ
((من النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)) آية 69 سورة النساء
، والحائدُ عنهُ هوَ المُعَذَّبُ الملهوفُ، المنقطِعُ الموقوفُ، قدْ خسِرَ خَسارةَ مَنْ لا يُسْتَصْلَحُ أمرُهُ، ولا يَنْجَبِرُ كسرُهُ، نعوذُ باللَّهِ العظيمِ من الخسرانِ.
وهلْ أَنْبَلُ مِنْ عِلْمٍ: يحملُ النفسَ على مكارمِ الأخلاقِ، ومحاسنِ الآدابِ، ويُخَلِّصُها منْ شَبَهِ الأنعامِ، وأخلاقِ سَفَلَةِ الأنامِ، يُهَذِّبُ النفسَ فَتَزْكُو، ويُطَهِّرُ القلبَ فيسْمُو، ويُنَقِّي السَّريرةَ فتصْفُو، ويُنِيرُ البصيرةَ، ويَشْحَذُ الهِمَّةَ، بهِ يَسْلَمُ القلبُ، ويصحُّ العلْمُ، ويصلحُ العملُ، و تُحمدُ السيرةُ، وتَحسُنُ العاقبةُ، ويَجْمُلُ الذكرُ.
فلا جَرَمَ كانَ الاشتغالُ بهِ عُنوانَ السعادةِ والفلاحِ، والاشتغالُ عنهُ آيَةَ الشقاوةِ والهلاكِ.
قالَ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللَّهُ تعالى في نُونِيَّتِهِ المُباركةِ:
والعلْمُ أقسامٌ ثلاثٌ مـا لهـا..................................مِنْ رابعٍ والحـقُّ ذُو تبيـانِ
علمٌ بأوصافِ الإلـهِ وفعلِـهِ....................................وكذلـك َ الأسمـاءُ للرَّحْمَـنِ
والأمرُ والنهيُ الذي هوَ دينُهُ................................وجزاؤُهُ يومَ المعـادِ الثانِـي
والكلُّ في القرآنِ والسُّنَنِ التي............................جاءَتْ عن المبعوثِ بالفُرْقَانِ
فعلى قدرِ علمِ العبدِ بربِّهِ وعملِهِ بما يقتضيهِ ذلكَ العلمُ ترتفعُ درجتُهُ، وتسْمُو هِمَّتُهُ، وتزْكُو نفسُهُ، ويُثْمِرُ غرسُهُ؛ فإنَّ الدنيا مزرعةُ الآخرةِ، وإنَّما صلاحُ العبادةِ بصلاحِ العلْمِ؛ فالعلمُ باللَّهِ أصلُ الدينِ كلِّهِ.
قال ابن القيم رحمه الله: (أَفْضَلُ العِلمِ والعَمَلِ والحالِ: العِلمُ باللَّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، والعملُ بمرْضَاتِهِ، وانجذابُ القلبِ إليهِ بالحُبِّ والخوفِ والرجاءِ، فهذا أشْرَفُ ما في الدُّنيا، وجزَاؤُهُ أشرفُ ما في الآخِرَةِ.
وأجلُّ المقاصدِ معرفةُ اللَّهِ ومحبَّتُهُ والأُنْسُ بقربِهِ، والشَّوقُ إلى لِقَائِهِ والتَّنَعُّمُ بِذِكْرِهِ، وهذا أجَلُّ سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ، وهذا هوَ الغايَةُ التي تُطْلَبُ لِذَاتِها.
وإنَّما يشعرُ العبدُ تمامَ الشُّعورِ بأنَّ ذلكَ عينُ السعادةِ إذا انكشفَ لهُ الغطاءُ وفارقَ الدُّنيا ودخلَ الآخرةَ، وإلاَّ فهوَ في الدنيا - وإنْ شعرَ بذلكَ بعضَ الشعورِ - فليسَ شعورُهُ كاملاً للمعارضاتِ التي عليهِ، والمحنِ التي امْتُحِنَ بها، وإلاَّ فليست السعادةُ في الحقيقةِ سِوَى ذلكَ.
وكلُّ العلومِ والمعارفِ تَبَعٌ لهذهِ المعرفةِ، مُرَادَةٌ لأجْلِها، وتفاوتُ العلومِ في فضلِها بحسَبِ إفضائِها إلى هذهِ المعرفةِ وبُعْدِها، فَكُلُّ علمٍ كانَ أقربَ إفضاءً إلى العلمِ باللَّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ فهوَ أعلى ممَّا دُونَهُ، وكذلكَ حالُ القلبِ؛ فكلُّ حالٍ كانَ أقربَ إلى المقصودِ الذي خُلِقَ لهُ فهوَ أشرفُ ممَّا دُونَهُ، وكذلكَ الأعمالُ، فكلُّ عملٍ كانَ أقربَ إلى تحصيلِ هذا المقصودِ كانَ أفضلَ منْ غيرِهِ، ولهذا كانت الصَّلاةُ والجهادُ منْ أفضلِ الأعمالِ وأفْضَلِهَا لقُرْبِ إفضَائِها إلى المقصودِ.
وهكذا يجبُ أنْ يكونَ؛ فإنَّ كلَّ ما كانَ الشيءُ أقربَ إلى الغايَةِ كانَ أفضلَ من البعيدِ عنها، فالعملُ المُعِدُّ للقلبِ المُهَيِّئُ لهُ لِمَعرفةِ اللَّهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ ومحبَّتِهِ وخوفِهِ ورجائِهِ أفضلُ ممَّا ليسَ كذلكَ.
وإذا اشتركتْ عِدَّةُ أعمالٍ في هذا الإِفْضَاءِ فأفضلُها أقْرَبُها إلى هذا المُفْضِي، ولهذا اشتركت الطَّاعاتُ في هذا الإفضاءِ فكانتْ مطلوبةً للَّهِ، واشتركت المعاصي في حَجْبِ القلبِ وَقَطْعِهِ عنْ هذهِ الغايَةِ فكانتْ مَنْهِيًّا عنها، وتأثيرُ الطاعاتِ والمعاصي بحَسَبِ درجاتِها).ا.هـ
(هذا الوضوع منقول) للشيخ :عبدالعزيز الداخل .