كيف أتوب ؟
الحمد لله ربِّ العالمين،أشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وعلى آله وصَحْبه ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
كيف أتوب؟سؤال يبحث عن إجابته كلُّ عاصٍ ضلَّ طريقَه، واتَّبع شيطانه ونفسه الأمَّارة بالسوء.
ورغم سهولة الإجابة، فإن من المستحيل طَرْحَها دون بيان حجج مَن ضلَّ طريقه، ويبحث عن تبرير لِمَا ارتكبه ويرتكبه من معاصٍ وذنوب لا يعلمها إلا الله - تعالى - وإليك أخي القارئ بعضًا من التبريرات أو الحجج الجوفاء، مع بيان زَيفها وضَحالتها قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال، وسوف ألتزمُ في الردِّعليها الْحِياد التامَّ في طَرْح الحجج من كلِّ جوانبها وعلاجها بموضوعيَّة، واضعًا نُصب عيني أنَّ الخير كل الخير في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يجادل فيه إلا مُكابر حَاقِد على الإسلام،وإنْ قال غير ذلك.
حجج وشبهات أهل المعاصي:
الحجة الأولى:
يقول البعض أُريد أن أتوبَ ولكنَّ الناس لا ترحم، ولا يسامح بعضُهم بعضًا، وطَغَتِ المصالح الشخصيَّة والأطماع الخاصة على القِيَم والمبادئ وحُب الخيروالتكافُل بين الناس، ومَن لَم يتعامل مع الناس بشدَّة وغِلْظة وسوء ظَنٍّ، فلا ناقة له ولا جَمل، وسوف يضيع حقّه، ومعاملة الناس بالحبِّ وحُسن الظنِّ بهم، وقَبول مَعذرتهم، كلها عوامل ضَعف في الشخصيَّة، ومثل هذاالإنسان سوف يَفترسُه الناس ويطمعون فيه، ويتعرَّض لسُخْريتهم وتَهكُّمهم،
فكيف أتوب بعد ذلك؟!
ومَن الذي يحميني منهم إن لم أكنْ مثلهم؛ غَليظ القلب وسَيئ الظنِّ بهم، ثم ليس منا مَن هو في إيمان أبي بكر الصديق،أو قوَّة وشدَّة الفاروق عمر بن الخطاب في الحقِّ،أو وَرَع وحَياء عثمان بن عفان،ولا فِقه وذكاء عَلِي بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين - والرسول ليس معنا كما كان مع الصحابة يرشدهم إلى الخير، ويحرِّضهم على التنافُس فيه.
إننا باختصارومجمل القول: أصبحْنا كالسمك الكبير يأكل الصغير، والغني يذلُّ الفقير،والقوي يُرهِب الضعيف، أصبحْنا نعيش للدنيا ونموت من أجْلها!! ومِن ثَمَّ لا بد كي أعيشَ أنْ أفكِّرَ بنفس الطريقة التي يفكر بها الناس، وأعاملهم كما يعاملونني؛ بلا شفقة أو رحمة، وإلا كنتُ تابعًا لهم، ذليلَ إرادتهموحِقدهم ...إلخ.
فكيف أتوب بعد ذلك؟!
الرد على الحجة الأولى:
بدهي أنَّ الناس لن تتَّفِقَ أهواؤهم، كما أنَّ التسامح والمحبَّة وإنكار الذات من أجْلهم لن يَصِلَ أبدًا للحالة التي كان عليها الصحابة والتابعين وتابعوالتابعين، وهم خيرُ قرون الإسلام على الإطلاق، بدليل حديث عِمران بن حصين قال:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم - قال عمران : فما أدري : قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله مرتين أو ثلاثا - ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن الراوي: عمران بن حصين المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6428
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
أخرجه البخاري في الإيمان،6201.
ومِن ثَمَّ، نستطيع القول - بكلِّ يقينٍ وحِياد -: إنه ليس منَّا، ولن يكون مَن هو كأبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - الذي قال في حقِّه النبي - صلى الله عليه وسلم -:
لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا ، لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا . ولكن صاحبكم خليل الله.
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2383
خلاصة حكم المحدث: صحيح
؛ مسلم في الفضائل، 4394.
وليس منَّا ،ولن يكون مَن هو مثل الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - الذي قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حَقِّه:
والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك .
الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3294
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
جزء من الحديث
أخرجه مسلم في الفضائل، 4410.
وليس منَّا،ولن يكون مَن هو كعثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - الذي قال النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - في حقِّه:
فقال " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " .
الراوي: عائشة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2401
خلاصة حكم المحدث: صحيح
جزء من الحديث
؛ أخرجه مسلم في الفضائل، 4414.
وليس منَّا،ولن يكون مَن هو كعَلِيِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - الذي قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حَقِّه:
يا علي ! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه ليس بعدي نبي.
الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 7951
خلاصة حكم المحدث: صحيح
؛ أخرجه مسلم في الفضائل، 4418.
وليس منَّا، ولن يكون رجلٌ أمين كأبي عبيدة بن الجراح، ولا شجاعٌ كسيف الله خالد بن الوليد، وغيرهما من الرعيل الأول من صحابة النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - والتابعين مِن بعدهم، وتابعي التابعين الذين قال الله - تعالى - فيهم:
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُوَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].
ومِن ثَمَّ، فَلْنَرْضَ بما نحن عليه في زماننا هذا دون تفريطٍ في حقِّ الله علينا، ولنكيِّف حياتنا على الكتاب والسُّنة لا العكس.
نعم أقول بكلِّ ما في قلبي من حَسرة وأَلَمٍ، مُقرًّا ببعض هذه الحجج والتبريرات، وليس كلها:
إن الواقع الذي نعيشه يشهد بأن في كلام مَن يقول بذلك بعض الحقِّ، فقد تشتَّتتِ الأُمة وضاعتْ سِمتُها وشخصيَّتها، وصَار الدين مُجرَّدَ شعائروطقوس، وأصبحت المبادئ تُباع وتُشترى لِمن يدفع أكثر، فلا انتماء لمبدأ ولا انتصار لحقٍّ، وإنما المال سيِّد الموقف، وقد مال بالناس عن الحقِّ والصواب، إلاَّ مَن عَصَمه ربُّ العِباد - سبحانه.
هذا على الجانب العام، أمَّا الجانب الشخصي، فحَدِّثْ ولا حَرَج، لقد صار المرءُ منَّا يتمنَّى لو كان أخوه لُقمة ليأكلَها هو، يقول: أنا وأنا والطوفان مِن بَعدي، واتَّخذ الشيطان حبيبًا وصديقًا، وولِيًّا مِندون الله - تعالى - وقد تَملَّكَنا حُبُّ الدنيا واتِّباع الهوى، وطَغَى على تصرُّفات الكثير منَّا حُبُّ الذَّات والنرجسيَّة، والأنانية الخبيثة، وأصبحت المصلحة الشخصيَّة لها الأولويَّة، حتى لو كانتْ تضرُّ بمصلحة الجماعة، فلا اعتبار لهذا، ومِن ثَمَّ اختلط الحابل بالنابل، وصار المرءُلا يدري أين الحقُّ، وأين الباطل؛ من كثرة التلبيس والتدليس!!
ولكن رغم كل ذلك،هل فات الأوان؟
الجواب قطعًا: لا؛ فلا يأْس من رحمة الله، ولا بد للشرِّ من نهاية، ولا بد من طلوع الفجر بعد ظُلمة الليل،والحلال بيِّن والحرام بَيِّن، والحق أحقُّ أن يُتَّبَعَ، وهنا مربط الفَرَس كما يقولون؛ قال - تعالى -:
﴿فَأَمَّاالزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ*لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [الرعد: 17 - 18].
ومِن ثَمَّ فلا مَندوحَة من بيان الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والخير من الشر؛حتى لا يلتبسَ الأمرُ علينا، ونكتشفَ أين نَضَعُ أقدامَنا، فإن للطريق مَزالِقَ خَطِرة، والشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء بالمرصاد لكلِّ جُهْد يُراد به تغييرُ النفس وتحصينها مما تحبُّ من شهوات الدنيا الْمُهْلِكة.
فلا غَرْوإذًا أن نتجاهلَ ونَصُدَّ وسوسة الشيطان، وحديث النفس إن خَالَفْنا أمرالله - تعالى - ورسوله، وعلاج هذه الحجة في الإيمان والإيمان فقط، وأقصد بالإيمان: الإيمان بالله، وأنه لا نافعَ ولا ضارَّ إلا هو - سبحانه وتعالى.
وهذا دواءٌ فعَّال، فلو آمَن وأيْقَنَ الإنسان بأنَّ غيرَه من المخلوقات لا يَملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا.
أكرر قولي؛ لينتبِهَ صاحب الحجة: إن يقينَ الإنسان بأنَّ أمرَه في يد خالقه ورازقه ليدفعه قُدمًا إلى التمسُّك بتعاليم الكتاب والسُّنة، ولا يضرُّه اعتراض أهْل الأهواء والْجِدال العقيم، والفكر الريكاردي، الذي شعارُه: أنا أفكرإذًا أنا موجود!!
ولَيْتَ شِعري، كيف يجد الإنسان نفسه وهو خائف على رزقه وعمله، وعياله وحَشمه، ولايخاف من أن يُسْلَب الإيمان، وتنقطع الصلة الروحيَّة بينه وبين الله - تعالى؟! ما الذي ينفع المرء إن أراد الناس جميعًا تدميره، وإغراقه فيهُوَّةٍ ما لَها مِن قرارٍ بحجج واهية؛ لقَتْل عزيمته، وتَسْفيه فِكْره،ووَهْنِ إرادته قبل التمرُّد على مبادئهم وأصنام الشهوات التي وَقعواأمامها هَلْكَى وصَرعى، فضلوا ضلالاً بعيدًا، ويظنون أنهم يُحسنون صُنعًا؟!
إنَّ من نعمة الله على الإنسان أن يُنيرَ بصيرته وهو غارق لأُذنيه في ظُلمة المعاصي،ويُعينه بنور الهداية على الْمُضِي قُدُمًا بلا مَللٍ أو كَلل في دروبها الشائكة، غير خائف أو واجلٍ،
وكيف يخالج جوانِحَه خوفٌ وقد أبصرَ طوقَ النجاة على مَرْمَى البصر؟!
وكيف يتردَّد في سلوك الطريق القويم بعد أنْ عرف لسانُه حلاوةَ الذِّكْر، وامتلأ قلبُه بالخشية من ربِّه والإيمان بقُدرته وعَظَمته، والطَّمْأَنينة بقُربه ومناجاته،والثِّقة وحُسن الظنِّ برحمته وعَفوه؟!
قال - تعالى - في كتابه الكريم:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ* الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ [الرعد : 28 - 29].
فهل مَن عرف حقيقة نفسه، وطَرَق فلاحها ونجاتها يتردَّد لَحظة في اتِّخاذ قراره؟
طبعًا لا، وإنما يسارع لسلوك الطريق الصعب؛ للخروج منه قبل أن تَجرِفَه عواصفُ المعاصي وتَبعاتُها، إن ظَلَّ يُمَنِّي نفسه بالنجاة دون أن يتَّخِذ العُدَّة للصمود، ويتأهَّب بما قَذَف الله به في قلبه في غَفلة مِن هو اهوشيطانه، في لحظة تجلَّتْ له فيها عَظَمة الله وقُدرته، فاقْشَعرَّ بدنُه،وخَشَع لها قلبُه، وأدمعتْ من خشيته عيناه، وقد أفلح إن فازَ بالنجاة.
يقول ابن القَيِّم في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (1/ 43) ما مختصره:
"فإن مَن لَم تُولَد رُوحه وقلبُه، ويَخرج من مَشيمة نفسه، ويتخلَّص من ظُلمات طبعه وهواه وإرادته، فهو كالجنين في بطن أُمِّه الذي لَم يرَ الدنيا وما فيها.
فهكذا هذا الذي بعدُ في مشيمة النفْس، والظلمات الثلاث هي: ظُلمة النفْس، وظُلمة الطبْع، وظُلمة الهوى، فلا بد من الولادة مرَّتين؛ كما قال المسيح للحَوَاريين: إنَّكم لن تَلِجوا ملكوت السماء؛ حتى تُولَدوا مرَّتين؛ ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أبًا للمؤمنين؛ كما قراءة أُبَيّ:
"النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم"؛ ولهذا تفرَّع على هذه الأُبوَّة أنْ جُعلتْ أزواجُه أُمَّهاتِهم، فإنَّأرواحَهم وقلوبهم وُلِدَتْ به ولادة أخرى غير ولادة الأُمَّهات، فإنه أخْرَجَ أرواحَهم وقلوبَهم من ظلمات الجهل والضلال والغَي إلى نور العلم والإيمان، وفضاء المعرفة والتوحيد، فشاهدتْ حقائق أُخَر وأمورًا لم يكنْلها بها شعورٌ قبله؛ قال - تعالى -:
﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [إبراهيم: 1]،
وقال: ﴿هُوَالَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]".
ثم قال - رحمه الله:
"والمقصود: أنَّ القلوب في هذه الولادة ثلاثة: قلبٌ لَم يولَد ولَم يَأْنِ له، بل هوجَنين في بطن الشهوات والغَي والجهل والضلال، وقلب قَد وُلِد وخَرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة، وتَخلَّص من مَشيمة الطباع، وظُلمات النفس والهوى،فقرَّتْ عينُه بالله، وقرَّتْ عيونٌ به وقلوب، وأَنِسَتْ بقُربه الأرواح،وذَكَّرَتْ رؤيته بالله، فاطمأنَّ بالله وسَكَن إليه، وعَكَف بِهِمَّته عليه، وسافرتْ هِممُه وعزائمُه إلى الرفيق الأعلى، لا يقر بشيءٍ غير الله،ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئنُّ بغيره، يجد مِن كل شيءٍ سوى الله عوضًا، ومَحبَّته قوَّته، لا يجد من الله عوضًا أبدًا، فذِكْرُه حياة قلبه،ورضاه غاية مَطلبه، ومَحبَّته قوَّته، ومعرفته أَنِيسه، عدوُّه مَن جَذَب قلبَه عن الله - وإن كان القريب المصافي - ووليُّه مَن ردَّه إلى اللهوجَمَع قلبَه عليه - وإن كان البعيد المناوِيَ - فهذا قلبان متباينان غاية التبايُن، وقلب ثالث في البرزَخ ينتظر الولادة؛ صباحًا ومساءً، وقد أصبح على فضاء التجريد، وآنَسَ من خلال الديار أشعة التوحيد، تأبَى غَلبات الحبِّ والشوق إلاَّ تقرُّبًا إلى مَن السعادة كلُّها بقُرْبه، والحظُّ كل الحظ في طاعته وحُبِّه، وتأبَى غَلبات الطباع إلاَّ جَذْبة وإيقافه وتعويقه، فهو بين الداعين تارةً، وتارة قد قَطَع عَقبات وآفات، وبَقِي عليه مفاوز وفَلوات.
والمقصود: أنَّ صاحب هذا المقام إذا تحقَّق به؛ ظاهرًا وباطنًا، وسَلِم عن نظرِ نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقيرٌ حقيقي، ليس فيه قادحٌ من القوادح التي تحطُّه عن درجة الفقر"؛ أ.هـ.
أخي القارئ:
بناءً على ما سَبَق يتَّضِح لنا أنَّ الإيمان بأنه لا نافع ولا ضارَّ إلا الله، يجعلُنا لا نتردَّد ألبتة في الْمُضي في الطريق بلا تردُّدٍ، بعزيمة وإيمان وقوَّة، ويقين بأنَّ الله غالب على أمره، ومُتِمُّ نوره وناصرُ عباده، ومؤيِّدهم برعايته ورحمته، لا يضر المرء كَيْد الكائدين، ولا تهويل أصحاب الهوى، ولا يغتر بكثرة الهالكين.
وختامًا لبيان زَيف هذه الحجة أقول: إن أهْلَها نسوا أو تناسوا قول الله - تعالى -:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: 17].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح:
عن ابن عباس ، قال : كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ، فقال : يا غلام احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف .
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الألباني - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح - الصفحة أو الرقم: 5232
خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
؛ أخرجه الترمذي، (4/ 2516)،وأحمد في مُسنده، (1/ 293)، وإسناده صحيح.
ومِن ثَمَّ،ألا نامتْ أعينُ الْجُبناء الذين تخلَّوا عن تعاليم دينهم؛ جَرْيًا خَلف زينة الدنيا الفانية، وقاتلوا عليها مَن هم على شاكِلتهم، من أجل ماذا؟
لا أدري!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العَلِي العظيم.
الحجة الثانية:
أنا أُريدأن أتوبَ، ولكن العصر قد اختلف وتغيَّر، ومن ثَمَّ طَغَتِ المادِّيَّات على حياتنا، وصار الدين مُجرَّدَ طقوسٍ بين العبد وربِّه، وانتشرت الإباحيَّة في كل مكان، حتى داخل البيوت؛ عن طريق جهاز التِّلفاز وأطباق الدِّش،فضلاً عن المجلات التي تعرِضُ صُوَر النساء العاريات من الفنانات، وموديلات الدعاية للشامبو والصابون، والسيارات والأجهزة المنزلية، وحتى لُعَب الأطفال، صارت المرأة مادة إثارة لِجَذْب الزبون، وتبرَّجتِ النساء، حتى المحجَّبات منهنَّ؛ لِجَهْلهن بشروط الحجاب، أو لِمُسايرة حجاب بيوت الأزياء الذي لا يرتبط بشروط الحجاب الشرعي بأيِّ رابطٍ، اللهم إلا في الاسم دون الجوهر، وفي الجملة انتشر الفساد في البر والبحر بما كسبتْ أيدي الناس، وأمام كلِّ هذه الفِتَن والكوارث والمصائب و...و..!!
كيف أتوب وأستقيم وأرى ما أرى، ولا أستطيع الانفكاك عنه والهروب منه؟!!
الرد علي الحجة الثانية:
الردُّ سهلٌ ويَسير لِمَن أراد حقًّا الهداية، وليكنْ معلومًا أنه ما صارت الفِتن تتساقط على رؤوسنا، والبركة تضيع من أيدينا، والمعاصي تزداد في أعمالنا - إلا بالبُعد عن الله تعالى وهَدْي النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى المرءِ أن يكون صريحًا في بيان الداء والدواء لِمَا أصاب حاله، إنأرادَ حقًّا التوبة والاستقامة، لا الجدال والاستطالة، والفَرق بين هذاوذاك كبير للغاية كما لا يَخفى، ومِن ثَمَّ نقول ردًّا على القول بتغيُّرالزمان بسؤال واضحٍ لا لَبْسَ فيه ولا غموض،
ما الذي تغيَّر وتبدَّل يا أهل المعاصي؟
القرآن الكريم بين أيدينا لم يتغيَّرْ فيه حرف، ومنقول إلينا بالتواتُر اللفظي عن جَمهرة كبيرة من الصحابة، فضلاً عن أنه محفوظ بحِفظ الله تعالى؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
والسُّنة محفوظة أيضًا بنصِّ الآية السابقة؛ لأن القران مُجمَل والسُّنة مُفَسِّرة له، وحِفْظُها من حِفظه كما لا يَخفى على اللبيب، وقال العلماء: حِفظ القرآن يتوقَّف على حِفظها، ومستلزم له بما أنها حِصنه الْحَصين، ودِرْعه المتين، وحارسه الآمين، وشارحه المبين؛ تفصِّل مُجْمله، وتفسِّر مُشكله،وتوضِّح مُبْهَمة، وتقيِّد مُطْلَقه،وتَبْسُط مختصره، وتدفع عنه عَبَث العابثين ولَهْوَ اللاهين، وتأويلهم إيَّاه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما تُمليه عليهم رؤوسهم وشياطينهم،فحفظُها من أسباب حِفظه، وصيانتها صيانة له"؛ "حُجيَّة السُّنة"؛ د. عبدالغني عبدالخالق، ص:391.
ولقد بذَل العلماء الْجُهد المشكور في بيان صحيحها من ضَعيفها؛ حتى لا يدخل في كلام النبي ما ليس منه، ولله الحمد والمنَّة، فهي محفوظة إذًا بحفظ الله، وإنغابَ الحبيب عنَّا بجسده، فلا غَرَابة في ذلك، فلم يَكتب الله لأحدٍ منخَلْقه الخلود في الدنيا وهو القائل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185].
ثم السنة - كما هو معلوم - اثنا عشر شهرًا، فهل قَلَّتْ أو زادتْ عمَّا كان أيام النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته شيئًا، حتى يُقال: إنَّ العصر قد اختلف، وما يُقال عن السنة يُقال عن الأسبوع، هل هو سبعة أيام كما كان في عهد النبي-صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه،الأمر لا يحتاج إلى تعليقٍ.
فما الذي تغيَّر إذًا؟!
من المؤْسِف أن يتحجَّج البعضُ ويتمسَّك بقَشَّة الزمن رغم هشاشتها ولِينها، وما في ذلك من سرعة سقوطهم في براثن الشيطان؛ ليُحِلُّوا لأنفسهم الخروج عن شَرْع الله - تعالى - ومن المستحيل أن يكون لسانُ حال هؤلاء هو هذا السؤال: كيف أتوب؟ لأنه من البداهة أن من يريد التوبة حقًّا يعدُّ العُدَّة ويُخْلِص النيَّة،ويُكثِر الزاد ويُجاهد نفسَه وهواه، ويلتمس وسائل الثبات على الدِّين، لاوسائل إبليسيَّة تدعوه إلى رَدِّ المعروف وإتيان المنكر، والسعي لانتصارالنفس على حساب الدين، أو إرضاء شهواتها على أطلال الفضيلة والقِيَم الأصيلة التي تعارَف عليها الناس ولا تُخالف الشرْع، بل تندمج فيه وتأخذ شرعيَّتها منه.
ولا بأْسَ أن نبيِّن لصاحب هذه الحجة زَيفها وبطلانها؛ لأن الإقناع هو الوسيلة الفعَّالة لردِّ العاصي عن مَعصيته، وإعانة التائب على توبته، وزيادة حماس أهْل الصلاح والتقوى على الْمُضِي قُدمًا على الطريق القويم، وصراط الله المستقيم.
نعم، يعيش المسلمون اليوم أزهى عصور التقدُّم العِلمي والتكنولوجي في كثيرٍ من بقاع العالم، فنحن في عصر الكمبيوتر والإنترنت، عصر حبوب الفياجرا والاستنساخ،وهَلُمَّ جرًّا.
ولكن للأسف الشديد، ما زال كثيرٌ من المسلمين يعيشون جاهلية التخلُّف والجمود، ولاأقصد جاهليَّة الأخْذ بالعلوم العصريَّة ومواكبة التقدُّم العِلمي، طبعًاهذا يخالف واقِعَ الحال؛ فالأُمَّة الإسلاميَّة - ولله الحمد والمنَّة - انتشرتْ فيها التكنولوجيا المتقدِّمة والمتطوِّرة، وأحدث ما وصلتْ إليه العقليَّة الإنسانية من العلوم والفنون، فقطعًا هذا ما لا أقصده، إنما أقصد جاهليَّة الاتِّباع الأعمى بلا وَعْي للحضارة الغربية والأمريكيَّة،والانسلاخ من الْهُويَّة والإسلامية بما فيها من قِيَمٍ وتعاليمَ ومبادئ سامية إلى عادات وتقاليد شعوب تعيش انهيار أخلاقي إلى جانب تقدُّمها العِلمي، معتقدين أنَّ الأخْذ بكل ما في تلك الحضارتين من فضائل ورذائل هوالسبيل الوحيد للرُّقِي والتقدُّم.
ومِن ثَمَّ لا ريبَ أن سعادتنا الحقيقيَّة - في الدنيا والآخرة - في عودتنا إلى ديننا الحنيف، وأخلاقنا وتقاليدنا السامية،مع الأخْذ بالتقدُّم العِلمي والاحتراز من العادات الشاذَّة، والاندفاع للأخْذ بها بتهوُّرٍ وجنون، بلا وَعْي لعواقبها ولا تفكير لإدراك فائدتها قبل الدعوة لانتشارها بين الناس، فليس الجميع على مستوًى واحدٍ من الفَهم والإدراك، وليس الجميع على مستوًى واحدٍ في قوة الإرادة والعزيمة.
قال - تعالى -: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌمِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].
وإهمال مثل هذا الفارق الفِطْري والجوْهَري في طبيعة أبناء آدم - عليه السلام - الذين جعلهم الله - سبحانه وتعالى، رغم الاختلاف البيِّن فيما بينهم - في تجانُس وانسجام، واحتياج بعضهم بعضًا،وزَرَع في قلوبهم الميْلَ الفِطْري والتعاون المثْمِر لالْتِماس ما ينقصهم؛ مِن علمٍ أو مال، أو قوَّة أو ذكاء وعبقريَّة، أو ما أشبه ذلك عند مَن أكَرَمه الله وأعطاه من صفات وخصائص ينفرِدُ بها عن أقرانه؛ ليكون هذا من وسائل الرِّزْق التي كَتَبها الله - تعالى - لعباده ووعَدَهم بها وضَمِنها لهم؛سواء اختار العبد الطريق القويم المستقيم، أو ضلَّ طريقه لِمَا أصابه من عَمَى البصر والبصيرة؛ قال - تعالى -:
﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].
أقول:أدَّى الانفتاح على العالَم في عصر العوْلَمة دون مُراعاة هذا الفارق الجوهري في طبيعة الإنسان إلى نتيجة سلبيَّة على جانب عظيم من الخطورة،وإلى إشاعة الفوضى وعُلو أهْل المنكر على أهْل المعروف، وأصبحتْ مقاديرالعلوم والثقافة في يد مَن لا يفقه شيئًا في دين الله - تعالى - وبالتبعة كان من عواقب ذلك الانهيار الأخلاقي بين أفراد الأُمَّة، فضلاً عن الفقرالثقافي والديني الذي أصابها بعد أن ظهَرَ النبوغ والعبقريَّة بَغْتة على عقول بعض أصحاب الفِكر والبَلْبلة؛ من خُطباء الفتنة، ومنكري السُّنة،وأنصار التنوير، فأغرقوا الأُمَّة في سفسطة جَدَليَّة وهَدَموا ثوابت الدين رأْسًا على عقب بحجة أنها السبب في تخلُّفنا عن رَكْب الحضارة، فأهملوا تعاليمَ دين ربِّ العالمين، وسُنَّة النبي الأمين-صلَّى الله عليه وسلَّم - واتبعوا تعاليم الشيطان الرجيم وأوليائه، وصَدَّعوا رؤوسنا بمذاهب شتَّى،وآراء عنتريَّة وسخافات جدليَّة، واتهموا العلماء وَرَثة الأنبياء بالغُلوِّ والتطرُّف عن سماحة الدين، وبصموا بالعشرة أنَّهم السبب الأساس في إفساد الشباب، ولو تأمَّلنا حال الشباب الذين أفسدَهم مشايخ التطرُّف،لا نجد إلا شبابًا مَهْووسًا من الجِنسَيْن، إلاَّ مَن رَحِم ربي، يشق أنْ تُميِّز بين الذَّكَر والأنثى فيما بينهم؛ لِمَا أصابهم من تخنُّث وميوعة!
ومِن ثَمَّ نقولها بكل حياد وصراحة: إن إنسانَ عصرِ العَولَمة والعلوم العصريَّة،والحوار بين الأديان .... إلى آخره - أصبح يعاني من ابتلاءاتٍ شتَّى،وصعوبات جَمَّة، على الرغم من التقدُّم العلمي المذْهِل، ولا فارِقَ في ذلك بين غَنِي قادر، وفقير عاجز، أو متعلِّم مُدرك وواعٍ، وجاهل أُمِّيٍّ تائه وحائر، وبين سليم معافًى، وسقيم يعاني ويُقاسي.
الإنسان هوالإنسان في كلِّ زمانٍ ومكان، صارت الابتلاءات تَعصِف بكِيانه، وتذهب بحُلمه ووقاره، وتُزلزل إيمانه ويقينه؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19 - 21].
نعم، ابتلاءات شتَّى تَعصِف وتكدِّر حياتك، ولكن لَم ولن تكون هذه الحجة عائقًا للإنسان أبدًا كي يستقيم على طريق الله - تعالى - ولأصحاب هذه الحجة أدعوهم إلى استشعار عَظَمة الافتقار إلى الله والالْتجاء إليه بالذِّكْر والدعاء،ونوافل الطاعات،فحقيقة الإيمان بالله تستلزم طاعته في السرَّاء والضرَّاء، في البليَّة والنعمة، فالمؤمن يفتقر إلى الله دائمًا، فهو الغني الحميد.
ولكن للأسف الشديد الأمر خلاف ذلك، فإذا أصاب الإنسان بَليَّة ابتعدَ عن الله وعن طاعته، وذِكْره وشُكْره، ولَجَأ إلى مخلوق مثله لا يملك له ولا نفسه نفعًاولا ضرًّا، وجَحَد نعمة الله عليه، وإن أصابتْه نعمة سُرَّ بها، ولجأ إلى الله بالشكر والذِّكْر، وفي ذلك يقول - تعالى -:
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 15 - 16].
وهذه من صفات الجاحدين والمنافقين، فَكُنْ غيرَ ذلك، واذكرِ الله - تعالى - في سَريرتك وعَلانيتك، في بَليَّتك ونعمتك، في سعادتك وشَقَائك، فإن في ذِكْرك له رحمةً بك، واطمئنانًا لقلبك؛ قال - تعالى -: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
وفي الحديث الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -:
يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7405
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
أخرجه البخاري، (13)، ح (7405)، (فتح) ومسلم ( 4)، ذكر، (2061)، ح (2).
فعليك - أخي القارئ - بالأذكار المختلفة في ذهابك وإيابك، في الصباح والمساء، لا تَغفل عن ذِكْر الله، ولا يفتر لسانُك عن التسبيح والتكبير، والتحميد والتهليل؛فإن ذلك من علامات حياه القلوب؛ لأن القلب الذي لا يذكر الله قلبٌ ميِّتٌ؛كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت.
الراوي: أبو موسى الأشعري المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6407
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
أخرجه البخاري، ( 11- ح 6407- فتح).
ولا تنسَ الدعاء؛ فهو مُخُّ العبادة، والْتَمِسْ أوقاتَ الإجابة، مثل: بعد الصلوات المفروضة، وفي الثُّلث الأخير من الليل، وفي السجود لله - تعالى - وعند نزول الغَيْث، وغير ذلك، واعلم أنَّ الله على كل شيءٍ قدير؛ قال - تعالى -:
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].
ولا تنسَ أن تدعو بهذا الدعاء العظيم الذي كان يدعو به النبي - صلى الله عليه وسلم -:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم ! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري . وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي . وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي . واجعل الحياة زيادة لي في كل خير . واجعل الموت راحة لي من كل شر " .
الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2720
خلاصة حكم المحدث: صحيح
؛ أخرجه مسلم، ( 4- ذكر – 2087- ح 71).
وحَذارِ أن تتعجَّل الإجابة وتترك الدعاء؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، فيقول : قد دعوت ربي فلم يستجب لي.
الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2735
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وفي رواية لمسلم:
لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم . ما لم يستعجل . قيل : يا رسول الله ! ما الاستعجال ؟ قال يقول : قد دعوت ، وقد دعوت ، فلم أر يستجيب لي . فيستحسر عند ذلك ، ويدع الدعاء.
الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2735
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وعليك - أخي المسلم - من الإكثار من النوافل؛ من صلوات وصيام، إلى غير ذلك من الطاعات التي تقرِّبك من ربِّك إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، واعلم أنَّ الجزاء من جِنس العمل، فمن ابتغى رضا الله، وتقرَّب إليه بسائر الطاعات؛ لايَلْجَأ إلا إليه، ولا يسأل سواه، ولا يَفْتَقِر إلا إلى رحمته، فإن الله - تعالى - سوف يَكْشف عنه السوءَ، ويُذْهِب عنه ما به مِن هَمٍّ وغَمٍّ وحزن؛ قال - تعالى -: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62].
وتذكَّر أنَّ دوام الحال من المحال، وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هاجروا من مكة إلى المدينة، تاركين الأهلَ والمال، والعشيرة والديار،وظلُّوا على إيمانهم وجِهادهم مؤمنين بنصر الله، وأنَّ مع العسر يُسْرًا،وأنَّ الفرج قريبٌ، حتى قضَى الله أمرًا كان مفعولاً، ودَخَل النبي إلى مكةومعه 10 آلاف مقاتل من المسلمين، وحَطَّم الأصنام وهو يقول قول الحقِّ - جل وعلا -: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].
وصعد بلال على الكعبة، فأذَّن وصَدع بكلمة التوحيد، ودَخَل الناس في دين الله أفواجًا، وعاد أصحابُه إلى الأهل والعشيرة والديار بالصبر والإيمان، فدوام الحال من المحال.
واعلم أنه لا بدَّ للمرء أن يمرَّ بثمانية أشياء؛ كما قال أهل العلم: عُسر ويُسر، حُزن وفَرح، لقاء وفِراق، سُقْم وعافية.
تلك هي سُنَّة الله في خَلقه، فالْتزم بأوامر الله وسُنَّة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحِد عنهما، ولا تتَّبعِ الهوى، ولا يغرَّك بالله الغرور،وتذكَّر - أخي القارئ - أنَّ أكثر الناس بلاءً الأنبياء فالصالحون، فالأمثل، فالأمثل.نعم، تذكَّرولا تنسَ أبدًا أنَّ البلاء شعارُ الصالحين، وعلى قَدْر إيمان العبد يكون بلاؤه، فإن كان إيمانه قويًّا، كان البلاء كذلك، حتى قيل: إذا سلك بك سبيل البلاء، فَقَرَّ عينًا؛ فإنه يسلك بك سبيل الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بك سبيل الرَّخاء فابْكِ على نفسك؛ فقد خُولِف بك عن سبيلهم.
الحجة الثالثة:
أنا أريدُ أن أتوبَ ولكنَّ النساء أخطرُ الفِتَن على الشباب غير المتزوِّج، وتبرُّجهن وكَشْفهن ما يجب إخفاؤه، مع صعوبة تكاليف الزواج، وخوف الفتاة من تقدُّم السِّنِّ دون زواج، أدَّى إلى وقوعهما معًا في الْحرام بجَهْلٍ بالشرع، أو تعمُّد وقَصْدٍ، والحال مستمر باستمرار السبب، والغريزة الجنسيَّة من أخطر غرائز الإنسان، فهل يكفي ما نسمعه من مواعظَ عن الصوم وغَضِّ البصر؟
وإلى متى؟
وماذا عن الشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء؟
فكيف أتوبُ ودوام الطاعة مع هذه الفِتن والانفلات الذي لا يردعه دينٌ أو قانون من المحال أن تستمرَّ؟
وللردِّ على هذه الحجة نقول:
إنَّ الغريزة الجنسيَّة حقًّا من أخطر غرائز الإنسان، ولقد أباحَ الله - تعالى - لنا إرواءَ هذه الغريزة بالزواج الحلال؛ لحِفْظ النَّسْل، وإنشاء جِيلٍ جديدٍ، واستمرار تعمير الأرض، وقيام الإنسان بمسؤوليَّته في تحمُّل واجبات الخلافة ومسؤوليَّاتها الجسيمة.
وبَدهي أنَّ الوضْع الفِطري أنَّ المرأة هي المطلوبة، والرجل هو الطالب لها، والقائم على مُتطلَّبات الزواج كلِّها، اللهم إلا إذا شاركتْه المرأة في بعض هذه الأشياء من باب العُرف السائد في دنيا الناس، وهو أمرٌ غير مُلزم لها، ولكنَّه محمودٌ في ذاته؛ لقوله - تعالى -: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].
إنَّ النساء - كما هو معلوم - من أخْطَر الفِتن؛ لأنها المرغوبة؛ ولهذا جعَلَها الله - تعالى - أوَّل مَراتب الشهوات وأخطرها على الإطلاق؛ قال - تعالى -: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14]،
والزواج هو الحلُّ الجذري لقَطْع دابر الفتنة التي نشأتْ بسبب هذا الانفلات؛ ولكن، بكل مصداقيَّة وحِياد أقول: ساعَدَ على هذا الانفلات تبرُّج النساء، وكَشْفُهن ما يجب إخفاؤه، مع صعوبة تكاليف الزواج، وإعراض الشباب عنه؛ لعجزهم عن مُؤْنته، ورُبَّما لخوف الفتاة من تقدُّم السِّنِّ دون زواج، ورُبَّما لِمَيْلها الغريزي للتزيُّن وجَذْب انتباه الشباب؛ لإرضاء أنوثتها ونفسها الأمَّارة بالسوء، ورُبَّما لغير ذلك.
وقد أدَّى ذلك كلُّه إلى إشعال الفتنة، وتهيُّج الغريزة الجنسيَّة للجنسيين إلى أقصى حَدٍّ، ومع زيادة العُري والاختلاط الفاحش بحجة المساواة، والْخَلوة المدمِّرة للشَّرف والفضيلة بلا حسيب أو رقيب، أو رادعٍ من دِين أو أهْل بحجة الحريَّة الشخصيَّة، ومُحَاولة إرضاء النفْس بالحرام الميسور بعد أن صارَ الحلال صعبًا.
وكانت النتيجة الطبيعيَّة لهذا الهبوط والانفلات أنْ تراجَعَ الوازع الديني وما تعارَفَ عليه الناس من قِيمٍ وأخلاقيَّات بين الشباب والفتيات معًا، إلاَّ مَن رَحِم ربِّي، ولَجَأ الشبابُ من الجنسيين إلى إرضاء ذاته وشَهَواته بطُرقٍ مَزالقُها خَطِرة، أدَّتْ إلى تفَشِّي الفجور في المجتمع، فانتشرَ بينهم الزواج السِّرِّي، والزواج العُرْفي الذي لا يستندُ إلى أركان الزواج الصحيح؛ من موافقة الوَلِي، والشهود، والصَّدَاق، والإشهار، وإنما هو زواجٌ "مودرن" على هوى النفْس؛ لإشباع الغرائز المكبوتة؛ لارتفاعِ تكاليف الزواج وصعوبته.
ورغم كل ذلك، فليس صلاح النفس وتقواها وبُعْدها عن عوامل الإثارة المهيجة للشهوة - حتى يقضي الله تعالى أمرًا كان مفعولاً - بمستحيل، فقط ما علينا إلا أنْ نتَّبِع الصراط المستقيم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
ولذا فمقولة: إنَّ الصوم وغَض البصر لا ينفعان في هذا الزمان، مَقولةٌ غير صائبة بالمرة، بل هي حجة ضعفاء الإيمان والإرادة، الذين أسلموا قِيادتهم للشيطان وأوليائه، ولو تمهَّلوا وتدبَّروا لوجدوا في "غَضِّ البصر والصوم" الملاذَ من فتنة النساء، ولو زادوا عليهما أمرًا ثالثًا، وهو أمرٌ جَوْهَري يتقدَّم الصوم وغَض البصر، بل هو العمود الفقري لهما، ولا فائدة منهما إنْ أهْمَله المرءُ، وها هي الأمور الثلاثة لِمَن أراد النجاةَ والفلاح بشيءٍ من البيان والتوضيح.
الأمر الأول والجوهري: قوة الإرادة والعزيمة:
يقول ابنُ القَيِّم (ص182) في كتابه "طريق الهجرتين" ما مُختصره:
وكذلك النفس: فما يحصل لها من شَرٍّ، فهو منها ومن طبيعتها، ولوازم نَقْصها وعَدمها، وما يحصل لها من خَيْرٍ، فهو من فَضْل الله ورحمته، والله خالقُها وخَالقُ كل شيءٍ قامَ بها؛ من قُدْرة وإرادة، وعِلْم وعمل، وغير ذلك... إلى أنْ قال:
فالنفس لا تكون إلا مُريدة عاملة، فإن لم توفَّق للإرادة الصالحة، وإلا وقعتْ في الإرادة الفاسدة، والعمل الضار، وقد قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ [المعارج: 19 - 22].
فأخبر - سبحانه - أنَّ الإنسان خُلِق على هذه الصفة، وأنَّ مَن كان على غيرها فلأجْل ما زكاه الله به من فَضْله وإحسانه، وقال - تعالى -: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28].
قال طاوس ومُقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساء، وقال الحسن: هو خَلْقُه من ماءٍ مهين، وقال الزجَّاج: ضَعف عَزْمه عن قَهْر الهوى، والصواب: أنَّ ضَعْفه يعم هذا كله، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر؛ فإنَّه: ضعيف البنْيِة، ضَعيف القوَّة، ضعيف الإرادة، ضعيف العِلم، ضعيف الصبر، والآفاتُ إليه مع هذا الضَّعف أسرعُ من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لا بدَّ له مِن حافظٍ مُعين، يُقَوِّيه ويُعينه، وينصره ويساعده، فإن تخلَّى عنه هذا المساعد المعين، فالهلاك أقربُ إليه من نفسه... ثم قال:
فالقدرة إن لم يكنْ معها حِكمة، بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظرٍ في العاقبة، ولا حِكمة محمودة يَطْلبها بإرادته، ويَقْصدها بفِعْله، كان فِعْلُه فسادًا، كصاحب شهوات الغَي والظلم، الذي يفعل بقوَّته ما يريده من شهوات الغَي في بَطْنه وفَرْجِه ومِن ظُلْم الناس، فإن هذا وإنْ كان له قوَّة وعِزَّة، لكنْ لَمَّا لَم يقْتَرن بها حِكمة، كان ذلك معونة على شَرِّه وفساده، وكذلك العِلم كماله أن تَقترن به الحِكمة، وإلاَّ فالعالم الذي لا يريد ما تَقتضيه الْحِكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سَفِيهٌ غاوٍ، وعِلمه عَونٌ على الشرِّ والفساد، هذا إذا كان عالِمًا، قادرًا، مُريدًا، له إرادة من غير حِكْمة، وإن قُدِّرَ أنَّه لا إرادة له بحال، فهذا أولاً مُمتنع من الحي، فإن وجودَ الشعور دون حبٍّ ولا بُغض ولا إرادة ممتنعٌ، كوجود إرادة دون الشعور، وأمَّا القُدرة والقوَّة إذا قُدِّر وجودُها دون إرادة، فهي كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعيَّة التي هي مبدأ الفِعْل والحركة لا إرادة لها، وقد قال بعضُ الناس: إنَّ للجماد شعورًا يليق به، واحْتَجَّ بقوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 74]،
وبقوله - تعالى -: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ [الكهف: 77].
وهذه المسألة كبيرة تحتاج إلى كلامٍ لا يَليق بهذا الموضِع، والمقصود أنَّ العلم والقُدرة المجرَّدين عن الحِكمة لا يحصل بها الكمال والصلاح، وإنَّما يحصل ذلك بالْحِكمة معها، واسمه - سبحانه - ((الحكيم)) يتضمَّن حِكْمته في خَلْقه وأمْره في إرادته الدينيَّة والكونيَّة، وهو حكيمٌ في كلِّ ما خَلَقه وأمَرَ به"؛ أ .هـ.
الأمر الثاني والثالث: الصوم وغَض البصر:
بعد هذا الكلام القَيِّم ندركُ أنَّ الإرادة السليمة حقًّا مَن لَجَأ صاحبُها إلى خالقه يلتمس عنده الدواء، والرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم - بيَّن لنا العلاج والدواء، فقد أخْرَجَ البخاري في النكاح وغيرُه أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال:
دخلت مع علقمة الأسود على عبد الله ، فقال عبد الله : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الشباب ، من استطاع الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ) .
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 5066
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
قال الحافظ ابن حجر عند شَرْح الحديث: ((فعليه بالصوم فإنَّه له وِجَاء))؛ بكَسْر الواو وبجيم ومَدٍّ، وهو رَضُّ الْخُصْيَتين، وقيل: رَضُّ عُروقهما، ومَن يُفْعَل به ذلك تنقطع شهوتُه، ومقتضاه أنَّ الصوم قامعٌ لشهوة النكاح، واستشكلَ بأنَّ الصوم يزيد في تهييج الحرارة، وذلك مما يُثير الشهوة، لكن ذلك إنَّما يقع في مبدأ الأمر، فإذا تمادَى عليه واعتادَه، سَكَن ذلك، والله أعلم".
وأما غَضُّ البصر، فقد قال - تعالى -: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ [النور: 30 - 31].
وفيما أخرجه أبو داود وغيره في النكاح عن جرير قال:
سألت رسول الله عن نظر الفجاءة فقال اصرف بصرك يعني : لا تعاود النظر مرة ثانية.
الراوي: جرير بن عبدالله المحدث: الألباني - المصدر: غاية المرام - الصفحة أو الرقم: 188
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وقال ابن القَيِّم في "زاد المعاد"، الجزء :2/ 27:
"لَمَّا كان المقصود من الصيام حَبْسَ النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قُوَّتها الشهوانيَّة؛ لتستعدَّ لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقَبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبديَّة، ويَكسر الجوع والظمأ من حِدَّتها وسَوْرتها، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.
وتُضَيَّق مَجاري الشيطان من العبد بتضييق مَجاري الطعام والشراب، وتُحْبَس قُوَى الأعضاء عن استرسالها لِحُكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسَكّن كل عضو منها، وكل قَوَّة عن جِماحه، وتُلْجَم بلجامه، فهو لِجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامه وشرابه من أجْل معبوده، فهو تَرْكُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها؛ إيثارًا لمحبَّة الله ومَرْضاته، وهو سرٌّ بين العبد ورَبِّه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على تَرْك المفطِّرات الظاهرة، وأما كونُه تَرَك طعامَه وشَرابَه وشهوتَه من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطَّلع عليه بَشَرٌ، وذلك حقيقة الصوم، وللصوم تأثيرٌ عجيب في حِفْظ الجوارح الظاهرة والقُوَى الباطنة، وحِمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولتْ عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صِحَّتها، فالصوم يحفظُ على القلب والجوارح صِحَّتها، ويعيدُ إليها ما استلبتْه منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى؛ كما قال - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((الصوم جُنَّة))، كما في الحديث
يقول الله عز وجل : الصوم لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي ، والصوم جنة ، وللصائم فرحتان : فرحة حين يفطر ، وفرحة حين يلقى ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7492
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
وأمر من اشتدَّتْ عليه شهوة النكاح ولا قُدرة له عليه بالصيام، وجعله وِجَاءَ هذه الشهوة.
والمقصود: أنَّ مصالح الصوم لَمَّا كانتْ مشهودة بالعقول السليمة، والفِطَر المستقيمة، شَرَعه الله لعباده؛ رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحِمْيَة لهم وجُنَّة.
وكان هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أكملَ الهدي، وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهله على النفوس، ولَمَّا كان فَطْمُ النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقِّ الأمور وأصعبها، تأخَّر فرضُه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لَمَّا توطَّنتِ النفوس على التوحيد والصلاة، وألِفَتْ أوامر القرآن، فنُقِلَتْ إليه بالتدريج"؛ ا.هـ.
والحجج - كما قلتُ سلفًا - كثيرة، ولكن يَكفي ما ذكرناه من حجج وتبريرات لبيان مقصودنا من المقالة، والله من وراء القَصْد وهو يهدي السبيل.