اولا ::الحوار وعلاقته بالمصطلحات المماثلة:
إذا رجعنا إلى كتب اللغة ومعاجمها فإننا نجد فيها مصطلحات تتفق في جانب من مفاهيمها ومعانيها مع مصطلح الحوار، وإذا أردنا أن نقف على مفهوم الحوار فإن ذلك يتطلب الوقوف على مفاهيم تلك المصطلحات التي لها علاقة وثيقة به وهي الجدل، والمناظرة، لأن هناك تداخلاً كبيراً في مستوى الدلالة بين هذه المصطلحات الثلاثة (الجدل - المناظرة - الحوار) وسنحاول هنا الوقوف على مفهوم كل مصطلح على حدة لنرى أوجه الاتفاق والاختلاف بينها.
مفهـوم الجـدل.
جاء في كتب اللغة أن الجَـدْل : شِدَّة الفَتْل( )، والجَـدَل : اللَّدَدُ في الخُصومـة والقدرةُ عليها، والجَدَل: مقابلة الحجـة بالحجـة( ).
وفي الحديث عن رسـول الله أنه قال:
«ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلَّا أوتوا الجدَلَ ثمَّ تلا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ هذهِ الآيةَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. الراوي: أبو أمامة الباهلي المحدث:الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 3253
خلاصة حكم المحدث: حسن
ويتضح لنا أن كلمة الجدل تدور حول معنيين هما:
المعنى الأول: الغلبة والقوة والصلابة، وهو مأخوذ من الجَدْل الذي هو شدة فتل الحبل، وإذا نقلنا هذا المعنى اللغوي المحسوس إلى الجوانب الفكرية والعقلية فسنجد بينهما تطابقاً واتفاقاً؛ لأن كل واحد من المتجادلين يحاول بقوته وفكره أن يجادل (الآخر) ويفتله «يثنيه» عن رأيه، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بقوة الدليل وصلابة الفكرة.
المعنى الثاني : اللَّدَد في الخصومة مع القدرة عليها، وهذا المعنى اللغوي يتفق مع نوع من أنواع الجدل الفكري وهو اللجاج الذهني، الذي لا يكون الغرض منه الوقوف على الحقيقة أو الوصول إلى الصواب وإنما مجرد الجدل لأجل الجدل وهو ما يطلق عليه العلماء الجدل المذموم ومنه قوله تعالى: ((وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) (الزخرف:58).
أما في الاصطلاح : فقد عرفه الجرجاني بأنه: القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، يكون الغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان، ودفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة( ).. أما المعجم الوسيط فقد عرفه بأنه: طريقة في المناقشة والاستدلال صورها الفلاسفة بصور مختلفة، وهو عند مناطقة المسلمين قياس مؤلف من مشهورات أو مسلمات( ).
وقد قسم علماء المسلمـين الجدل إلى جدل محمود وجـدل مذموم.. أما المحمود فهو: ما كان من أجل تقرير الحق، وهو مهنة الأنبياء في الدفاع عن العقيدة، ومنه قوله تعالى: ((وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ )) (النحل:125)، ذلك أن المجادلة بالتي هي أحسن هو الحوار، لأن الهدف منه هو الإقناع والتربية والتوجيه( ).. وأما الجدل المذموم فهو: الذي يتعلق في تقرير الباطل( ) ويراد به الجَدَلُ على الباطل وطَلَبُ المغالبة فيه. وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ((مَا يُجَـٰدِلُ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ)) (غافر:4) وقولـه تعالى: ((وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ)) (غافر:5).
مفهوم المناظرة:
المناظرة لغة من النظير، أو من النظر بالبصـيرة، فهي من النظر تفيد الانتظار والتفكير في الشيء تقيسه وتقدره، ومن التناظر تفيد التقابل( )، ومن النظير تفيد التماثل( ).
أما في الاصطلاح فهي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشـيئين إظهاراً للصواب( )، وهي بـهذا المعنى تفيد المحاورة بين شخصين أو فريقين حول موضوع معين، لكلٍ منهما وجهة نظر تخالف وجهة نظر الفريق الآخر، بحيث يريد إثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر خصمه، مع توفر الرغبة الصادقة بظهور الحق والاعتراف به عند ظهوره.
مفهوم الحوار:
الحوار في اللغة:
ذكر علماء اللغة ل ( حَـوَرَ ) معاني متعددة تبعاً لتفعيلاتها الصرفية، فقد جاء أن الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، يقال حارَ إِلى الشيء وعنه حَوْراً و مَحاراً و مَحارَةً رجع عنه وإِليه( ).
وكل شيء تغير من حال إِلى حال، فقد حارَ يْحُور حَوْراً، قال لبيد:
وما المَرْءُ إِلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يَحُورُ رَماداً بعد إِذْ هو ساطِعُ. ( )
والمحَاوَرَةُ: المجاوبة. و التَّحاوُرُ: التجاوب، تقول أحرت له جواباً وما أَحارَ بكلمة( ). والحَوْر: الجَواب، يقال كلّمته فما رَدَّ إلىَّ حَوْراً أو حَوِيراً. ( )
واستحاره أَي استنطقه. يقال: كلَّمته فما رَدَّ إِليَّ حَوْراً أَي جواباً، وهم يَتَحاوَرُون أَي يتراجعون الكلام، و المُحَاوَرَةُ: مراجعة المنطق في المخاطبة. ( )
والحواريون في اللغة الذين أُخْلِصُوا ونُقُّوا من كل عيب؛ وكل شيء خَلَصَ لَوْنُه، فهو حَوَارِي. ( )
ويتضح لنا من خلال ما تقدم أن كلمة الحوار تدور حول المعاني التالية :
1- الرجوع إلى الشيء وعن الشيء، والمتحاورون قد يرجع أحدهم إلى رأي الآخر أو قولـه أو فكره رغبة في الوصول إلى الصواب والحقيقة،
ومنه قوله تعالى: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ)) (الانشقاق:14) أي لن يرجع مبعوثاً يوم القيامة.
2- التحول من حال إلى حال، فالمحاور يتنقل في حواره من حالة إلى أخرى، فمرة يكون مستفسراً، وأخرى يكون مبرهناً، وثالثة يكون مفنداً، وهكذا.
3- الإجابة والرد، وهو قريب من المعنى الاصطلاحي للحوار؛ لأن كلاً من طرفي التحاور يهتم بالإجابة عن أسئلة صاحبه، ويقدم مجموعة من الردود على أدلته وبراهينه.
4- الاستنطاق ومراجعة الحديث، فكل واحد من المتحاورين يستنطق صاحبه ويراجع الحديث معه لغرض الوصول إلى هدفه وقصده.
5- النقاء والتخلص من العيوب، والواقع أن طبيعة الحوار والمناقشة تؤدي بالنتيجة إلى التخلص من العيوب الفكرية، من خلال طرح الأفكار المتعددة واختيار الراجح منها.
الحوار في الاصطلاح:
وبعد هذا العرض للمدلول اللغوي يمكن لنا أن نحـدد المعنى الاصطلاحي للحوار بأنه: أسلوب يجري بين طرفين، يسوق كلٌ منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.
ومما لا شك فيه فإن كل واحد من المشتركين في الحوار لا يقتصر على عرض الأفكار القديمة التي يؤمن بها وإنما يقوم بتوليد الأفكار في ذهنه، ويعمد إلى توضيح المعاني المتولدة من خلال عرض الفكرة وتأطيرها وتقديمها بأسلوب علمي مقـنع للطرف الآخر، بحيث يظل العقل واعياً طوال فترة المحاورة ليستطيع إصدار الحكم عليها، سلباً أو إيجاباً. ( )
وبعد هذا العرض الذي قدمناه لمدلولات المصطلحات المتداخلة (الجدل- والمناظرة - والحوار ) يتضح لنا أن الحوار وإن كان مناوبة الحديث بين طرفين إلا أنه لا يشتمل على الخصومة والمنازعة والمراء كما هو الجدل، وإنما هو أداة أسلوبية تستخدم لمعالجة موضوع من الموضوعات المتخصصة في حقل من حقول العلم والمعرفة أو جانب من جوانب الفكر والعقيدة، للوصول إلى حقيقة معينة بهذا الشكل من أشكال الأسلوب والمحادثة، وهو عملية تتضمن (طرحاً) من طرف، يتمثله الطرف (الآخر) ويجيب عليه فيحدث (تجاوب) يولّد عند كل منهما (مراجعة) لما طرحه الطرف (الآخر)، وهذه العملية هي التي يطلق عليها الحوار أوالمحاورة.
وهذا يعني أن ركيزة الحوار هنا هي ركيزة معرفية تمارس النقد الإيجابي الذي يستجلي الحقائق ويقاربها...
وهذا يعني أيضاً أن مفهوم التفاوض المستوجب لاستدرار المنافع الخاصة كما ومفهوم الجدال الذي يقوم على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر هما مفهومان ممنوعان في منطق الحوار.
ذلك أن أهدافهما تختلف عن أهدافه من جهة، ونتائجهما هي تختلف عن نتائجه بالضرورة من جهة ثانية...
ومن المفيد القول إنّ الأدبيات الإسلامية استخدمت في هذا الشأن التواصلي مع الآخر مصطلح الجدل بالتي هي أحسن وهو مختلف عن الجدل الاعتيادي...
إذ الجدل بالتي هي أحسن يعمل على تفهُّم الآخر ويسعى لإحداث تغيير في العلاقة معه مفادها حسب النص القرآني: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) سورة النحل
وايضا
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34.
والوليّ هو الصاحب القريب من النفس والروح. فتقريب العدو إلى دائرة الولاية الحميمية تضعنا أمام مشهد الحكم عليه بالإخاء الإنساني الموازي للإخاء الديني.
التعديل الأخير تم بواسطة أبو يوسف ; 14th April 2013 الساعة 01:30 PM